التفاسير

< >
عرض

أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِٱلْبَنِينَ
١٦
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـٰنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ
١٧
أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي ٱلْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي ٱلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ
١٨
وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ
١٩
وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ
٢٠
-الزخرف

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ اهل الكوفة إلا أبا بكر { أو من ينشأ } بضم الياء وتشديد الشين. الباقون بفتح الياء والتخفيف. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر "عند الرحمن" بالنون. الباقون "عباد" على الجمع وقرأ نافع "أأشهدوا" بضم الألف وفتح الهمزة من (اشهدت) الباقون "اشهدوا" من (شهدت) من قرأ (ينشأ) بالتشديد جعله في موضع مفعول لأنه تعالى قال { { إنا أنشأناهن إنشاء } فانشأت ونشأت بمعنى إذا ربيت. وتقول: نشأ فلان ونشأه غيره وغلام ناشىء أي مدرك. وقيل في قوله { { ثم أنشأناه خلقاً آخر } قال هو نبات شعر ابطه ومن خفف جعل الفعل لله، لان الله انشأهم فنشؤوا، ويقال للجوار الملاح: النشأ قال نصيب:

ولولا ان يقال صبا نصيب لقلت بنفسي النشأ الصغار

ومن قرء عباد فجمع (عبد) فهو كقوله { { لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون } فاراد الله أن يكذبهم فى قولهم: إن الملائكة بنات الله، وبين انهم عباده. ومن قرأ "عند" بالنون، فكقوله { { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته } وقال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس فى مصحفي "عباد" فقال: حكه. ووجه قراءة نافع "أأشهدوا" انه جعله من اشهد يشهد جعلهم مفعولين وقال تعالى { { ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم } من قرأ بفتح الهمزة جعله من شهد يشهد فهؤلاء الكفار إذا لم يشهدوا خلق السموات والارض ولا خلق انفسهم من اين علموا ان الملائكة بنات الله وهم لم يشهدوا ذلك، ولم يخبرهم عنه مخبر؟!.
لما اخبر الله تعالى عن الكفار انهم جعلوا له من عباده جزءاً على ما فسرناه، وحكم عليهم بأنهم يجحدون نعمه ويكفرون أياديه، فسر ذلك وهو انهم قالوا { أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين } فى هذا القول حجة عليهم لأنه ليس بحكيم من يختار لنفسه أدون المنزلتين ولغيره اعلاهما، فلو كان على ما يقول المشركون من جواز اتخاذ الولد عليه لم يتخذ لنفسه البنات ويصفيهم بالبنين فغلطوا فى الأصل الذي هو جواز إتخاذ الولد عليه، وفى البناء على الأصل باتخاذ البنات، فنعوذ بالله من الخطاء فى الدين. ومعنى (أصفاكم) خصكم وآثركم بالذكور واتخذ لنفسه البنات.
ثم قال تعالى { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا } يعني إذا ولد لواحد منهم بنت حسب ما اضافوها إلى الله تعالى ونسبوها اليه على وجه المثل لذلك { ظل وجهه مسوداً } أي متغيراً مما يلحقه من الغم بذلك حتى يسود وجهه ويربد { وهو كظيم } قال قتادة معناه حزين، وفى هذا ايضاً حجة عليهم لأن من اسود وجهه بما يضاف اليه مما لا يرضى فهو احق ان يسود وجهه باضافة مثل ذلك إلى من هو اجل منه، فكيف الى ربه.
ثم قال تعالى على وجه الانكار لقولهم { أو من ينشؤا في الحلية } قال ابن عباس { أو من ينشؤا في الحلية } المراد به المرأة. وبه قال مجاهد والسدي، فهو في موضع نصب والتقدير او من ينشؤ فى الحلية يجعلون. ويجوز ان يكون الرفع بتقدير أولئك ولده على ما قالوا هم بناته يعني من ينشؤ فى الحلية على وجه التزين بها يعني النساء فى قول اكثر المفسرين. وقال ابو زيد: يعني الاصنام. والاول اصح { وهو في الخصام غير مبين } في حال الخصومة، فهو ناقص عمن هو بخلاف هذه الصفة من الشبيه على ما يصلح للجدال ودفع الخصم الالد بحسن البيان عند الخصومة، فعلى هذا يلزمهم ان يكونوا باضافة البنات قد اضافوا ادنى الصفات اليه.
ثم قال تعالى { وجعلوا } يعني هؤلاء الكفار { الملائكة الذين هم عباد الرحمن } متذللون له خاضعون له. ومن قرأ بالنون اراد الذين هم مصطفون عند الله { إناثاً } فقال لهم على وجه الانكار { أشهدوا خلقهم } ثم قال { ستكتب شهادتهم } بذلك { ويسألون } عن صحتها. وفائدة الآية أن من شهد بما لا يعلم فهو حقيق بأن يوبخ ويذم على ذلك وشهادته بما هو متكذب به على الملائكة اعظم من الفاحشة، للاقدام على تنقصهم فى الصفة، وإن كان في ذلك على جهالة.
ثم حكى عنهم إنهم قالوا { لو شاء الرحمن ما عبدناهم } كما قالت المجبرة بأن الله تعالى أراد كفرهم، ولو لم يشأ ذلك لما كفروا، فقال الله لهم على وجه التكذيب { ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون } أي ليس يعلمون صحة ما يقولونه وليس هم إلا كاذبين. ففي ذلك إبطال مذهب المجبرة فى ان الله تعالى يريد القبيح من افعال العباد. لان الله تعالى قطع على كذبهم فى ان الله تعالى يشأ عبادتهم للملائكة، وذلك قبيح لا محالة وعند المجبرة الله تعالى شاءه. وقد نفاه تعالى عن نفسه وكذبهم فى قولهم فيه.