التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ
٢
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٣
وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ
٤
أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ
٥
-الزخرف

التبيان الجامع لعلوم القرآن

خمس آيات في الكوفى وأربع فى ما سواه، عدّ الكوفيون { حم } ولم يعده الباقون.
قرأ نافع وحمزة والكسائي وخلف "ان كنتم" بكسر الهمزة جعلوه شرطاً مستأنفاً واستغنى عما تقدم، كقولك: انت عالم ان فعلت، فكانه قال: ان كنتم قوماً مسرفين نضرب. الباقون بفتحها جعلوه فعلا ماضياً أي اذا كنتم، كما قال
{ { أن جاءه الأعمى } والمعنى اذ جاءه الاعمى، فموضع (ان) نصب عند البصريين، وجر عند الكسائي، لان التقدير افنضرب الذكر صفحاً لأن كنتم، وبأن كنتم قوماً مسرفين. والمسرف الذي ينفق ماله فى معصية الله، ولا اسراف فى الطاعة.
قد بينا معنى { حم } فى ما مضى، واختلاف المفسرين فيه، فلا معنى لاعادته
وقوله { والكتاب } خفض بالقسم. وقيل: تقديره ورب الكتاب، والمراد بالكتاب القرآن، والمبين صفة له. وانما وصف بذلك لانه أبان عن طريق الهدى من الضلالة، وكل ما تحتاج اليه الأمّة فى الديانة. والبيان هو الدليل الدال على صحة الشيء وفساده. وقيل: هو ما يظهر به المعنى للنفس عند الادراك بالبصر والسمع، وهو على خمسة أوجه: باللفظ، والحظ، والعقد بالاصابع، والاشارة اليه، والهيئة الظاهرة للحاسة، كالاعراض عن الشيء، والاقبال عليه، والتقطيب وضده وغير ذلك. واما ما يوجد فى النفس من العلم، فلا يسمى بياناً على الحقيقة وكل ما هو بمنزلة الناطق بالمعنى المفهوم فهو مبين.
وقوله { إنا جعلناه قرآناً عربياً } اخبار منه تعالى انه جعل القرآن الذي ذكره عربياً بأن يفعله على طريقة العرب فى مذاهبها في الحروف والمفهوم. ومع ذلك فانه لا يتمكن أحد منهم من انشاء مثله والاتيان بما يقاربه في علو طبقته في البلاغة والفصاحة، اما لعدم علمهم بذلك أو صرفهم على حسب اختلاف الناس فيه. وهذا يدل على جلالة موقع التسمية في التمكن به والتعذر مع فقده. وفيه دلالة على حدوثه لان المجعول هو المحدث. ولان ما يكون عربياً لا يكون قديماً لحدوث العربية. فان قيل: معنى جعلناه سميناه لأن الجعل قد يكون بمعنى التسمية. قلنا: لا يجوز ذلك - ها هنا - لأنه لو كان كذلك لكان الواحد منا اذا سماه عربياً فقد جعله عربياً، وكان يجب لو كان القرآن على ما هو عليه وسماه الله اعجمياً أن يكون اعجمياً او كان يكون بلغة العجم وسماه عربياً ان يكون عربياً، وكل ذلك فاسد.
وقوله { لعلكم تعقلون } معناه جعلناه على هذه الصفة لكي تعقلوا وتفكروا في ذلك فتعلموا صدق من ظهر على يده.
وقوله { وإنه } يعني القرآن { في أم الكتاب لدنيا } يعنى اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه ما يكون إلى يوم القيامة لما فيه من مصلحة ملائكته بالنظر فيه وللخلق فيه من اللطف بالاخبار عنه { وأم الكتاب } أصله لأن أصل كل شيء أمه.
وقوله { لعلي حكيم } معناه لعال في البلاغة مظهر ما بالعباد اليه الحاجة مما لا شيء منه إلا يحسن طريقه ولا شيء أحسن منه. والقرآن بهذه الصفة علمه من علمه وجهله من جهله لتفريطه فيه و (حكيم) معناه مظهر المعنى الذي يعمل عليه المؤدي إلى العلم والصواب. والقرآن من هذا الوجه مظهر للحكمة البالغة لمن تدبره وأدركه. ثم قال لمن جحده ولم يعتبر به على وجه الانكار عليهم { أفنضرب عنكم الذكر صفحاً } معناه أنعرض عنكم جانباً باعراضكم عن القرآن والتذكر له والتفكر فيه { أن كنتم قوماً مسرفين } على نفوسكم بترككم النظر فيه والاعتبار بحججه. ومن كسر الهمزة جعله مستأنفاً شرطاً. ومن فتحها جعله فعلا ماضياً أي إذ كنتم كما قال
{ { أن جاءه الأعمى } بمعنى إذ جاءه الاعمى، فموضع (أن) نصب عند البصريين وجر عند الكسائي، لأن التقدير الذكر صفحاً، لان كنتم وبأن كنتم. قال الشاعر:

اتجزع ان بان الخليط المودع وجعل الصفا من عزة المتقطع

والمسرف الذي ينفق ماله فى معصية الله، لان من انفقه في طاعة او مباح لم يكن مسرفاً وقال علي عليه السلام (لا إسراف فى المأكول والمشروب) و (صفحاً) نصب على المصدر، لأن قوله { أفنضرب عنكم الذكر } يدل على ان اصفح عنكم صفحاً وَكأن قولهم: صفحت عنه أي أعرضت ووليته صفحة العنق. والمعنى افنضرب ذكر الانتقام منكم والعقوبة لكم أن كنتم قوماً مسرفين، كما قال { { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } ومن كسر فعلى الجزاء واستغنى عن جوابه بما تقدم كقولهم: انت ظالم ان فعلت كانه قال إن كنتم مسرفين نضرب، وقال المبرد: المعنى متى فعلتم هذا طلبتم أن نضرب الذكر عنكم صفحاً. قال الفراء: تقول العرب: أضربت عنك وضربت عنك بمعنى تركتك واعرضت عنك. وقال الزجاج: المعنى افنضرب عنكم الذكر أي نهلكم فلا نعرفكم ما يجب عليكم لأن أسرفتم وأصل ضربت عنه الذكر ان الراكب إذا ركب دابة فأراد أن يصرفها عن جهة ضربها بعصاً او سوط لتعدل به إلى جهة أخرى يريدها ثم يوضع الضرب موضع الصرف والعدل. وصفحاً مصدر أقيم قيام الفاعل، ونصب على الحال. والمعنى افنضرب عنكم تذكيرنا إياكم الواجب صافحين او معرضين، يقال صفح فلان بوجهه عني أي اعرض قال كثير:

صفوح فما تلقاك إلا بخيلة فمن مل منها ذلك الوصل ملت

والصفوح فى صفات الله معناه العفو يقال: صفح عن ذنبه إذا عفا. وقال بعضهم: المعنى افظننتم أن نضرب عنكم هذا الذكر الذي بينا لكم فيه امر دينكم صفحاً، فلا يلزمكم العمل بما فيه، ولا نؤاخذكم لمخالفتكم إياه إن كنتم قوماً مسرفين على أنفسكم، وجرى ذلك مجرى قول أحدنا لصاحبه وقد أنكر فعله أأتركك تفعل ما تشاء أغفل عنك إذا أهملت نفسك، ففي ذلك إنكار ووعيد شديد.