التفاسير

< >
عرض

فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ
٢٢
فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ
٢٣
وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ
٢٤
كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
٢٥
وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ
٢٦
وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ
٢٧
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ
٢٨
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ
٢٩
-الدخان

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ ابو جعفر (فاكهين) بغير الف - ها هنا - وفى المطففين. وفي الطور وافقه الداجوني وحفص فى المطففين.
حكى الله تعالى أن موسى حين يئس من قومه ان يؤمنوا به { دعا } الله { ربه } فقال { إن هؤلاء قوم مجرمون } وقيل إنه دعا بما يقتضيه سوء افعالهم وقبح إجرامهم وسوء معاملتهم له، فكأنه قال: اللهم عجل لهم بما يستحقونه باجرامهم ومعاصيهم بما به يكونون نكالا لمن بعدهم، وما دعا بهذا الدعاء إلا بعد إذن الله له فى الدعاء عليهم.
وقوله { فأسر بعبادي } الفاء وقعت موقع الجواب، وتقديره فدعا فأجيب بأن قيل له { فأسر بعبادي } فهي عطف وقع موقع جواب الدعاء. وأمره الله تعالى بأن يسير بأهله والمؤمنين به لئلا يروهم إذا خرجوا نهاراً، واعلمه { إنكم متبعون } أنه سيتبعهم فرعون وقومه ويخرجون خلفهم، وامره بأن { يترك البحر رهواً } أي ساكناً على ما هو به من كثرته إذا قطعه، ولا يرده إلى ما كان ويقال: عيش راه إذا كان خفضاً وادعاً. وقال قوم: معناه اترك البحر يبساً. وقيل: طريقاً يابساً. وقال ابن الاعرابي: معناه واسعاً ما بين الطاقات. وقال خالد ابن خيبري: معناه رمثاً أي سهلا ليس برمل ولا حزن. ذكره الأزهري يقال: جاء الخيل رهواً أي متتابعة. وقال ابن الاعرابي الرهو من الخيل والطير السراع. وقال العكلي: المرهي من الخيل الذي تراه كأنه لا يسرع، وإذا طلب لا يدرك، ويقال: أعطاه سهواً رهواً أي كثيراً لا يحصى. وإنما قيل ذلك، لأنه كان أمره أولا ان يضرب البحر بعصاه ليفلق فيه طرقاً لقومه ثم أمره بأن يتركه على الحالة الأولى ليغرق فيه فرعون وجنده، قال الشاعر:

طيراً رأت بازياً نضح الدماء به وأمة اخرجت رهواً إلى عيد

أي سكوناً على كثرتهم.
ثم اخبره عن فرعون وقومه بـ { إنهم جند مغرقون } أي سيغرقهم الله. وفي الكلام حذف، لان تقديره ان موسى سار بقومه وتبعه فرعون وجنده وأن الله أهلكهم وغرقهم.
ثم اخبر عن حالهم بأن قال { كم تركوا من جنات } يعني من بساتين لهم تركوها لم تنفعهم حين نزل بهم عذاب الله { وعيون } جارية لم تدفع عنهم عقاب الله { وزروع } جمع زرع { ومقام كريم } قيل: هو المجلس الشريف. وقيل: مقام الملوك والامراء والحكماء. وقيل: المنازل الحسنة. وقال قتادة: يعني مقام حسن بهج. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: هي المناظر. وقيل: المنابر. وقيل: المقام الكريم هو الذي يعطي اللذة، كما يعطي الرجل الكريم الصلة { ونعمة كانوا فيها فاكهين }، فالنعمة - بفتح النون - التنعيم - وبكسرها - منفعة يستحق بها الشكر، وإن كانت مشقة، لأن التكليف نعمة وإن كانت فيه مشقة. ومعنى الآية انهم كانوا متمتعين. فالفاكة المتمتع بها بضروب اللذة، كما يتمتع الآكل بضروب الفاكة، يقال: فكه يفكه فكهاً، فهو فاكه، وفكه وتفكه يتفكه تفكهاً، فهو متفكه.
وقوله { كذلك وأورثناها قوماً آخرين } فتوريثه النعمة إلى الثاني بعد الأول بغير مشقة كما يصير الميراث إلى أهله على تلك الصفة، وتوريث العلم شبه بذلك، لأن الأول تعب فى إستخراجه وتوطئة الدلالة المؤدية اليه، ووصل إلى الثاني وهو رافه وادع، لم يكل لطول الفكر وشدة طالب العلم، فلما كانت نعمة قوم فرعون وصلت بعد هلاكهم إلى غيرهم، كان ذلك توريثاً من الله لهم. قال قتادة: يعني بقوم آخرين بني اسرائيل، لأن بني اسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون على ما قيل، وكذلك قال فى موضع آخر
{ { وأورثناها بني إسرائيل } }. وقوله { فما بكت عليهم السماء والأرض } قيل فى معناه ثلاثة اقوال:
احدها - قال الحسن فما بكى عليهم - حين اهلكهم الله - أهل السماء واهل الأرض، لانهم مسخوط عليهم مغضوب عليهم بانزال الخزي بهم.
الثاني - إن التقدير ان السماء والارض لو كانتا ممن يبكى على أحد إذا هلك لما بكتا على هؤلاء، لانهم ممن أهلكهم الله بالاستحقاق وانزل عليهم رجزاً بما كانوا يكفرون. والعرب تقول: إذا أرادت أن تعظم موت إنسان: اظلمت الشمس وكسف القمر لفقده وبكت السماء والارض، وإنما يريدوا المبالغة قال الشاعر:

الريح تبكي شجوها والبرق يلمع فى الغمامه

وقال آخر:

والشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمر

الثالث - انهم لم يبك عليهم ما يبكى على المؤمن إذا مات، مصلاه ومصعد علمه - ذكره ابن عباس وابن جبير - ومعناه لم يكن لهم عمل صالح. وقال السدي: لما قتل الحسين عليه السلام بكت السماء عليه وبكاؤها حمرة أطرافها. وقال الحسن: ما بكى عليهم المؤمنون والملائكة، بل كانوا بهلاكهم مسرورين.
وقوله { وما كانوا منظرين } أي عوجلوا بالعقوبة ولم يمهلوا.