التفاسير

< >
عرض

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً
١
لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
٢
وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً
٣
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَٰناً مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
٤
لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ ٱللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً
٥
-الفتح

التبيان الجامع لعلوم القرآن

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } قال البلخي: الفتح يكون فى القتال وبالصلح، وباقامة الحجج، ويكون المعنى { إنا فتحنا لك } بحجج الله وآياته { فتحاً مبيناً } لينصرك الله بذلك على من ناواك. وقال قتادة: نزلت هذه الآية عند رجوع النبي صلى الله عليه وآله من الحديبية، بشر فى ذلك الوقت بفتح مكة، وتقديره { إنا فتحنا لك } مكة. وقال البلخي عن الشعبي فى وقت الحديبية بويع النبي صلى الله عليه وآله بيعة الرضوان، وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم على فارس، وبلغ الهدي محله. والحديبية بئر، فروي انها غارت فمج النبي صلى الله عليه وآله فيها فظهر ماؤها حتى امتلاءت به. وقال قتادة: معنى { فتحنا } قضينا لك بالنصر. وقيل: معناه اعلمناك علماً ظاهراً في ما أنزلناه عليك من القرآن واخبرناك به من الدين، وسمي العلم فتحاً، كما قال { { وعنده مفاتح الغيب } أي علم الغيب. وقال { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } وقال الزجاج: معناه ارشدناك إلى الاسلام، وفتحنا لك الدين بدلالة قوله { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } وقال مجاهد { فتحنا لك فتحاً مبينا } يعني نحره بالحديبية وحلقه. وقال قتادة: معناه قضينا لك قضاء بيناً. وفي الحديبية مضمض رسول الله صلى الله عليه وآله فى البئر وقد غارت فجاشت بالرواء. والفتح هو القضاء من قولهم: اللهم أفتح لي. وقوله تعالى { { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين } والفتح الفرج المزيل للهم. ومنه فتح المسألة إذا انفرجت عن بيان ما يؤدي إلى المطلوب، ومنه فتح عليه القراءة، لانه متعلق بالسهو، وينفتح بالذكر والفتح المبين هو الظاهر، وكذلك جرى فتح مكة.
وقوله { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } قيل جعل غفرانه جزاء عن ثوابه على جهاده في فتح مكة. وقيل فى معناه اقوال:
احدها - ما تقدم من معاصيك قبل النبوة وما تأخر عنها.
الثاني - ما تقدم قبل الفتح وما تأخر عنه.
الثالث - ما قد وقع منك وما لم يقع على طريق الوعد بأنه يغفره له إذا كان.
الرابع - ما تقدم من ذنب أبيك آدم، وما تأخر عنه.
وهذه الوجوه كلها لا تجوز عندنا، لأن الانبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم فعل شيء من القبيح لا قبل النبوة ولا بعدها، لا صغيرها ولا كبيرها فلا يمكن حمل الآية على شيء مما قالوه، ولا صرفها إلى آدم لان الكلام فيه كالكلام فى نبينا محمد صلى الله عليه وآله ومن حمل الآية على الصغائر التي تقع محبطة فقوله فاسد، لأنا قد بينا أن شيئاً من القبائح لا يجوز عليهم بحال. على ان الصغائر تقع مكفرة محبطة لا يثبت عقابها، فكيف يمتن الله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله أنه يغفرها له وهو تعالى لو آخذه بها لكان ظالماً وإنما يصح التمدح بما له المؤاخذة أو العفو عنه، فاذا غفر استحق بذلك الشكر. وللاية وجهان من التأويل:
احدهما - ليغفر لك ما تقدم من ذنب امتك. ما تأخر بشفاعتك ولمكانك. وأضاف الذنب إلى النبي وأراد به أمته، كما قال
{ { واسأل القرية } يريد اهل القرية فحذف المضاف وأقام المضاف اليه مقامه وذلك جائز لقيام الدلالة عليه، كما قال { { وجاء ربك } والمراد وجاء أمر ربك.
الثاني - أراد يغفر ما اذنبه قومك اليك من صدهم لك عن الدخول إلى مكة في سنة الحديبية، فازال الله ذلك وستر عليك تلك الوصمة بما فتح عليك من مكة ودخلتها في ما بعد، ولذلك جعله جزاء على جهاده فى الدخول إلى مكة. والذنب مصدر تارة يضاف إلى الفاعل وتارة إلى المفعول، فيكون - هٰهنا - مضافاً إلى المفعول، والذنب وإن كان غير متعدّ إلى مفعول جاز ان يحمل على المصدر الذي هو فى معناه، والصد متعد كما قال الشاعر:

جئني بمثل بني بدر لقومهم او مثل اسرة منظور بن سيار

لما كان معنى جئني هات أعطني عطف او (مثل) على المعنى فنصبه، ومثله كثير فى اللغة.
وقوله { ويتم نعمته عليك } فاتمام النعمة فعل ما يقتضيها من تبقيتها على صاحبها والزيادة منها، فالله تعالى قد أنعم على النبي صلى الله عليه وآله وتممها بنصره على اعدائه الرادين لها المكذبين بها حتى علا بالحجة والقهر لكل من ناواه. وقيل يتم نعمته عليك بفتح مكة وخيبر والطائف. وقيل بخضوع من تكبر وطاعة من تجبر.
وقوله { ويهديك صراطاً مستقيماً } أي يرشدك إلى الطريق الذي إذا سلكته ادّاك إلى الجنة، لا يعدل بك إلى غيرها { وينصرك الله نصراً عزيزاً } فالنصر العزيز هو الذي يمنع من كل جبار عنيد وعات أثيم. وقد فعل الله تعالى ذلك بنبيه محمد صلى الله عليه وآله فصار دينه أعز الاديان وسلطانه أعظم السلطان.
وقوله { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } وهو ما يفعل الله تعالى بهم من اللطف الذي يحصل لهم عنده بصيرة بالحق تسكن اليها نفوسهم ويجدون الثقة بها بكثرة ما ينصب الله لهم من الأدلة الدالة على الحق فهذه النعمة التامة للمؤمنين خاصة. فأما غيرهم فتضطرب نفوسهم لاول عارض من شبهة ترد عليهم، لانهم لا يجدون برد اليقين فى قلوبهم. وقيل: السكينة ما تسكن اليه قلوبهم من التعظيم لله ورسوله والوفاء له.
وقوله { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } أي ليزدادوا معارف أخر بما أوجب الله عليهم زيادة على المعرفة الحاصلة، فبين الله تعالى ما لنبيه عنده وللمؤمنين ليزدادوا ثقة بوعده. وقوله { ولله جنود السماوات والأرض } قيل: معناه انصار دينه ينتقم بهم من اعدائه. وقيل: معناه إن جميع الجنود عبيده { وكان الله عليماً } بالاشياء قبل كونها وعالماً بعد كونها { حكيماً } فى افعاله لانها كلها محكمة وصواب.
وقوله { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } إنما لم يدخل واو العطف فى (ليدخل) اعلاماً بالتفصيل، كأنه قال إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله، إنا فتحنا لك فتحاً ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات أي بساتين تجري من تحت اشجارها الانهار { خالدين فيها } أي مؤبدين لا يزول عنهم نعيمها { ويكفر عنهم سيئاتهم } أي عقاب معاصيهم التي فعلوها فى دار الدنيا { وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً } أي الظفر، والصلاح بما طلبوه من الثواب العظيم.