التبيان الجامع لعلوم القرآن
قرأ ابن كثير وابو عمرو { دائرة السوء } بضم السين. الباقون بفتحها، وقد فسرناه في ما تقدم. فالسوء المصدر والسوء الاسم. وقال قوم - بالفتح - الفساد مثل قوله { وظننتم ظن السوء } لأنهم ظنوا أن النبي صلى الله عليه وآله لا يعود إلى موضع ولادته أبداً. وقرأ ابن كثير وابو عمرو { ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزروه ويوقروه ويسبحوه } بالياء أربعهن، على وجه الاخبار من الله عز وجل عن نفسه.
لما اخبر الله تعالى عن نفسه أنه يدخل المؤمنين والمؤمنات جنات، ووصفها اخبر فى هذه الآية انه يعذب المنافقين والمنافقات وهم الذين يظهرون الايمان ويبطنون الشرك. والنفاق إسرار الكفر وإظهار الايمان، فكل نفاق هو إظهار خلاف الابطان. وأصله من نافقاء اليربوع، وهو أن يجعل لسربه بابين يظهر أحدهما ويخفي الآخر، فاذا أتي من الظاهر خرج من الآخر، فالمنافق يقوي الباطل على الحق بالظن له، وإلقاء خلافه لتضييعه الدليل المؤدي اليه، { والمشركين والمشركات } وهم الذين يعبدون مع الله غيره، ويدخل فى ذلك جميع الكفار. ثم وصفهم فقال { الظانين بالله } يعني الذين يظنون بالله { ظن السوء } أي يتوهمون ان الله ينصرهم على رسوله، وذلك قبيح لا يجوز وصف الله بذلك. ثم قال تعالى { عليهم دائرة السوء } فالدائرة هي الراجعة بخير او شر قال حميد بن ثور:
ودائرات الدهر ان تدورا
ومن قرأ { دائرة السوء } بضم السين - أراد دائرة العذاب، ومن قرأ - بالفتح - أراد ما عاد عليهم من قتل المؤمنين وغنمهم أموالهم، فهدا حسن.
وقيل { عليهم دائرة السوء } أي جزاء ظنهم السوء من العذاب. ومن ضم اراد الشر، ويقال: رجل سوء - بالفتح - أي رجل فساد. ثم قال { وغضب الله عليهم } أي لعنه لهم وعذابه { ولعنهم } أي أبعدهم من رحمته. وقوله { وأعد لهم جهنم } يجعلهم فيها.
ثم قال { وساءت مصيراً } أي ساءت جهنم مآلا ومرجعاً، لما فيها من انواع العقاب.
وقوله { ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزاً حكيماً } قد فسرناه، وإنما أعيد ذكر { ولله جنود... } لأنه متصل بذكر المنافقين أي وله الجنود التي يقدر على الانتقام منكم بها، وذكر أولا، لأنه متصل بذكر المؤمنين أي له الجنود التي يقدر ان يغنيكم بها. والعزيز القادر الذي لا يقهر. وقيل { هو العزيز } فى إنتقامه من أعدائه { الحكيم } فى جميع أفعاله. ثم خاطب نبيه محمد صلى الله عليه وآله فقال { إنا أرسلناك } يا محمد { شاهداً } يعني على أمتك بالبلاغ والدعاء إلى إخلاص عبادته. أو شاهداً بما عملوه من طاعة ومعصية و { شاهداً } نصب على حال مقدر على القول الأول، وعلى حال غير مقدرة على القول الثاني. { ومبشراً } نصب على الحال الحاصلة. والمعنى ومبشراً بالجنة لمن أطاع { ونذيراً } أي مخوفاً من النار لمن عصى - ذكره قتادة - ثم بين الغرض بالارسال، فقال: أرسلناك بهذه الصفة { لتؤمنوا } ومن قرأ - بالياء - أي ليؤمنوا هؤلاء الكفار { بالله }. ومن قرأ - بالتاء - وجه الخطاب إلى الخلق أي أرسلته اليكم { لتؤمنوا بالله } فتوحدوه { ورسوله } فتصدقوه و { تعزروه } أي تنصروه، فالهاء راجعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وقال المبرد: معنى { تعزروه } تعظموه يقال: غررت الرجل إذا كبرته بلسانك { وتوقروه } أي تعظموه يعني النبي صلى الله عليه وآله - فى قول قتادة - وقال ابن عباس { تعزروه } من الاجلال { وتوقروه } من الاعظام.
وقوله { وتسبحوه } يعني الله تعالى أى تنزهوه عما لا يليق به { بكرة وأصيلا } أى بالغداة والعشي. وقيل معناه تصلوا له بالغدوات والعشيات.
وقوله { لتؤمنوا بالله ورسوله } فيه دلالة على بطلان قول المجبرة إن الله تعالى يريد من الكفار الكفر، لأنه تعالى بين انه أراد من جميع المكلفين الطاعة، ولم يرد أن يعصوا.
ثم قال { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } فالمراد بالبيعة المذكورة - هٰهنا - بيعة الحديبية، وهي بيعة الرضوان - فى قول قتادة ومجاهد - والمبايعة معاقدة على السمع والطاعة، كالمعاقدة فى البيع والشراء بما قد مضي فلا يجوز الرجوع فيه. وقيل: إنها معاقدة على بيع أنفسهم بالجنة للزومهم فى الحرب النصرة.
وقوله { يد الله فوق أيديهم } قيل فى معناه قولان:
احدهما - عقد الله فى هذه البيعة فوق عقدهم لأنهم بايعوا الله ببيعة نبيه صلى الله عليه وآله
والآخر - قوة الله فى نصرة نبيه صلى الله عليه وآله فوق نصرتهم.
وقيل يد الله فى هدايتهم، فوق أيديهم بالطاعة.
وقوله { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } والنكث النقض للعقد الذي يلزم الوفاء به، فبين تعالى أن من نقض هذه المبايعة، فانما ينكث على نفسه، لان ما فى ذلك من استحقاق العقاب عائد عليه { ومن أوفى } يقال: اوفى بالعقد، ووفى. وأوفى لغة الحجاز. وهي لغة القرآن { بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً } أي إذا اوفى بالبيعة ونصر دينه ونبيه آتاه الله فى ما بعد أجراً عظيماً وثواباً جزيلا.
ومن ضم الهاء فى { عليه } وهو حفص، فلأنها الأصل. ومن كسرها فللمجاورة للياء