التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
١١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ
١٢
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
١٣
قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٤
إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ
١٥
-الحجرات

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرا اهل البصرة { لا يألتكم } بالهمزة. الباقون { لا يلتكم } بلا همزة، وهما لغتان، يقال: ألت يألت إذا أنقص، ولات يليت مثل ذلك. وفى المصحف بلا الف وقال الشاعر:

وليلة ذات ندى سريت ولم يلتني عن سراها ليت

ومعنى الآية لا ينقصكم من أعمالكم شيئاً، ومنه قوله { { وما ألتناهم من عملهم من شيء } أي ما نقصناهم. وقرأ يعقوب { ميتاً } بالتشديد. الباقون بالتخفيف. والتشديد الأصل، وهو مثل سيد وسيد.
يقول الله مخاطباً للمؤمنين الذين وحدوه وأخلصوا العبادة له وصدقوا نبيه وقبلوا ما دعاهم الله اليه { لا يسخر قوم مْن قوم } ومعناه لا يهزأ به ويتلهى منه، وقال مجاهد: لا يسخر غني من فقير لفقره بمعنى لا يهزأ به، والسخرية بالاستهزاء ولو سخر المؤمن من الكافر احتقاراً له لم يكن بذلك مأثوماً، فأما فى صفات الله، فلا يقال إلا مجازاً كقوله
{ { فإنا نسخر منكم كما تسخرون } معناه إنا نجازيكم جزاء السخرية.
ثم قال { عسى أن يكونوا خيراً منهم } لانه ربما كان الفقير المهين فى ظاهر الحال خيراً عند الله وأجل منزلة واكثر ثواباً من الغني الحسن الحال. وقال الجبائي: يجوز ان يكونوا خيراً منهم فى منافع الدنيا، وكثرة الانتفاع بهم. وقوله { ولا نساء من نساء } أي ولا يسخر نساء من نساء على هذا المعنى { عسى أن يكن خيراً منهن } ويقال: هذا خير من هذا بمعنى أنفع منه في ما يقتضيه العقل، وكذلك كان نسب رسول الله صلى الله عليه وآله خير من نسب غيره، ثم قال { ولا تلمزوا أنفسكم } فاللمز هو الرمي بالعيب لمن لا يجوز ان يؤذى بذكره، وهو المنهي عنه، فأما ذكر عيبه، فليس بلمز، وروي انه صلى الله عليه وآله قال
"قولوا فى الفاسق ما فيه كي يحذره الناس" وقال الحسن: فى صفة الحجاج أخرج الينا نباتاً قصيراً قل ما عرفت فيها إلا عنه فى سبيل الله ثم جعل يطبطب بشعيرات له، ويقول: يابا سعيد. ولو كان مؤمناً لما قال فيه ذلك. وقال ابن عباس وقتادة: معناه لا يطعن بعضكم على بعض كما قال { ولا تقتلوا أنفسكم } لان المؤمنين كنفس واحدة، فكأنه بقتله اخاه قاتل نفسه.
وقوله { ولا تنابزوا بالألقاب } قال ابو عبيدة: الانباز والالقاب واحد فالنبز القذف باللقب، نهاهم الله أن يلقب بعضهم بعضاً. وقال الضحاك: معناه كل اسم او صفة يكرة الانسان أن يدعى به، فلا يدع به. وإنما يدعى بأحب اسمائه اليه. وقوله { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } لا يدل على ان المؤمن لا يكون فاسقاً لأن الايمان والفسق لا يجتمعان، لأن ذلك يجري مجرى ان يقال: بئس الحال الفسوق مع الشيب على ان الظاهر يقتضي ان الفسوق الذي يتعقب الايمان بئس الاسم، وذلك لا يكون إلا كفراً، وهو بئس الاسم.
ثم قال { ومن لم يتب } يعني من معاصيه ويرجع إلى طاعة الله ومات مصراً { فأولئك هم الظالمون } الذين ظلموا نفوسهم بأن فعلوا ما يستحقون به العقاب.
ثم خاطبهم ايضاً فقال { يا أيها الذين آمنوا } أي صدقوا بوحدانيته { اجتنبوا كثيراً من الظن } وإنما قال { كثيراً } لان فى جملته ما يجب العمل عليه، ولا يجوز مخالفته. وقوله { إن بعض الظن أثم } فالظن الذي يكون إثماً إنما هو ما يفعله صاحبه وله طريق إلى العلم بدلا منه مما يعمل عليه، فهذا ظن محرم لا يجوز فعله، فأما ما لا سبيل له إلى دفعه بالعلم بدلا منه، فليس باثم، فلذلك كان بعض الظن أثم، دون جميعه، والظن المحمود قد بينه الله ودل عليه فى قوله
{ { ولولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً } وقيل: يلزم المؤمن أن يحسن الظن به ولا يسيء الظن في شيء يجد له تأويله جميلا، وإن كان ظاهره القبيح. ومتى فعل ذلك كان ظنه قبيحاً.
وقوله { ولا تجسسوا } أي لا تتبعوا عثرات المؤمن - فى قول ابن عباس ومجاهد وقتادة - وقال ابو عبيدة التجسس والتجسس واحد وهو التبحث يقال: رجل جاسوس، والجاسوس والناموس واحد. وقيل للمؤمن حق على المؤمن ينافي التجسس عن مساوئه. وقيل: يجب على المؤمن أن يتجنب ذكره المستور عند الناس بقبيح، لان عليهم أن يكذبوه ويردّوا عليه، وإن كان صادقاً عند الله، لان الله ستره عن الناس، وإنما دعى الله تعالى المؤمن إلى حسن الظن فى بعضهم ببعض للألفة والتناصر على الحق، ونهوا عن سوء الظن لما فى ذلك من التقاطع والتدابر.
وقوله { ولا يغتب بعضكم بعضاً } فالغيبة ذكر العيب بظهر الغيب على وجه تمنع الحكمة منه. ويروى فى الخبر إذا ذكرت المؤمن بما فيه مما يكرهه الله، فقد اغتبته وإذا ذكرته بما ليس فيه، فقد بهته.
وقوله { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه } معناه ان من دعي إلى اكل لحم أخيه فعافته نفسه، فكرهته من جهة طبعه، فانه ينبغي إذا دعي إلى عيب أخيه فعافته نفسه من جهة عقله، فينبغي أن يكرهه، لأن داعي العقل أحق بأن يتبع من داعي الطبع لان داعي الطبع أعمى وداعي العقل بصير، وكلاهما فى صفة الناصح، وهذا من أحسن ما يدل على ما ينبغي ان يجتنب من الكلام. وفي الكلام حذف، وتقديره أيحب احدكم ان يأكل لحم أخيه ميتاً فيقولون: لا، بل عافته نفوسنا، فقيل لكم فكرهتموه، فحذف لدلالة الكلام عليه. وقال الحسن: معناه فكما كرهتم لحمه ميتاً فاكرهوا غيبته حياً، فهذا هو تقدير الكلام.
وقوله { واتقوا الله } معطوف على هذا الفعل المقدر، ومثله
{ ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك } والمعنى ألم نشرح، قد شرحنا فحمل الثاني على معنى الأول، لأنه لا يجوز ان يقول ألم وضعنا عنك.
ثم قال { واتقوا الله } باجتناب معاصيه وفعل طاعاته { إن الله تواب } أي قابل لتوبة من يتوب اليه { رحيم } بهم.
ثم قال { قالت الأعراب آمنا } قال قتادة: نزلت الآية فى اعراب مخصوصين انهم قالوا { آمنا } أي صدقنا بالله وأقررنا بنبوتك يا محمد، وكانوا بخلاف ذلك في بواطنهم، فقال الله تعالى لنبيه { قل } لهم { لن تؤمنوا } على الحقيقة في الباطن { ولكن قولوا أسلمنا } أي استسلمنا خوفاً من السبي والقتل - وهو قول سعيد بن جبير وابن زيد - ثم بين فقال { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } بل أنتم كفار فى الباطن. ثم قال لهم { وإن تطيعوا الله ورسوله } وترجعوا إلى ما يأمرانكم به من طاعة الله والانتهاء عن معاصيه { لا يلتكم من أعمالكم شيئاً } أي لا ينقصكم من جزاء أعمالكم شيئاً { إن الله غفور رحيم } أي ساتر لذنوبهم إذا تابوا رحيم بهم فى قبول توبتهم.
ثم وصف المؤمن على الحقيقة فقال { إنما المؤمنون } على الحقيقة { الذين آمنوا بالله } وصدقوا وأخلصوا بتوحيده { ورسوله } أي واقروا بنبوة نبيه { ثم لم يرتابوا } أي لم يشكوا فى شيء من أقوالهما { وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } ثم قال { أولئك هم الصادقون } فى أقوالهم دون من يقول بلسانه ما ليس فى قلبه.
وقوله { يا أيها الناس } خطاب للخلق كافة من ولد آدم يقول لهم { إنا خلقناكم } باجمعكم { من ذكر وأنثى } يعني آدم وحوا عليهما السلام وقال مجاهد: خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة بدلالة الآية { وجعلناكم شعوباً وقبائل } فالشعوب النسب الأبعد، والقبائل الأقرب - في قول مجاهد وقتادة - وقيل الشعوب أعم، والقبائل اخص. وقال قوم: الشعوب الأفخاذ والقبائل اكثر منهم. والشعوب جمع شعب، وهو الحي العظيم، والقبائل مأخوذ من قبائل الرأس، وقبائل الحقبة التي يضم بعضها إلى بعض، فاما الحي العظيم المستقر بنفسه فهو شعب، قال ابن احمر:

من شعب همدان او سعد العشيرة او خولان او مذحج جواله طرباً

والقبائل جمع قبيلة، وقوله { لتعارفوا } معناه جعلكم كذلك لتعارفوا، فيعرف بعضكم بعضاً. ومن قرأ بالياء مشددة، أدغم أحداهما فى الآخرى، ومن خفف حذف أحداهما. ثم قال { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } لمعاصيه، واعملكم بطاعته
قال البلخي: اختلف الناس فى فضيلة النسب، فانكرها قوم، واثبتها آخرون والقول عندنا فى ذلك انه ليس احد أفضل من مؤمن تقي، فان الحسب والنسب والشرف لا يغنيان فى الدين شيئاً، لأن لهما فضلا كفضل الخز على الكرباس والكتان على البهاري وكفضل الشيخ على الشاب. فان الطبائع مبنية والاجماع واقع على أن شيخاً وشاباً لو استويا فى الفضل فى الدين لقدم الشيخ على الشاب وزيد فى تعظيمه وتبجيله، وكذلك الأب والابن لو استويا فى الفضل فى الدين لقدم الأب، وكذلك السيد وعبده. وهذا مما لا خلاف فيه بين العقلاء، وكذلك لو أن رجلين استويا فى الدين ثم كان احدهما له قرابة برسول الله أو بالخيار الصالحين لوجب أن يقدم المتصل برسول الله وبالصالح، ويزاد إكرامه فى تعظيمه وتبجيله، وكذلك إذا استويا وكان في آباء احدهما أنبياء ثلاثة وأربعة، وكان في آباء الآخر نبي واحد كان الأول مستحقاً للتقديم، وكذلك لو كان لاحدهم أب نبي إلا انه من الانبياء المتقدمين، وكان ابو الآخر هو النبي الذي بعث الينا كان الثاني اعظم حقاً وأحق بالتقديم، وكذلك لو كان احدهما له آباء معروفون بالفضل والأخلاق الجميلة والأفعال الشريفة وبالوقار وبالنجدة والادب والعلم كانت الطبايع مبنية على تقديمه على الآخر. فان قيل: الطبائع مبنية على تقديم ذوي المال فيجب ان يكون الغنى وكثرة المال شرفاً. قلنا: كذلك هو لا ننكر هذا ولا ندفعه. فان قيل: إذا كان لأحدهما مال لا يبذل، والآخر قليل المال يبذل قدر ما يملكه من الحقوق ويضعه فى مواضعه؟ قلنا الباذل أفضل من الذي لا يبذل. وإنما تكلمنا فى الرجلين إذا استويا في خصالهما وفضل أحدهما كثرة المال وكان واضعاً له في موضعه باذلاله فى حقوقه وكذلك لو أن رجلا كان ذا حسب وشرف في آبائه إلا انه كان فاسقاً او سخيفاً او وضيعاً في نفسه كان الذي لا حسب له وهو عفيف نبيل افضل منه بالأوصاف التي لا تخفى. وكان حسب ذلك السخيف مما يزيده وبالا، ومعنى الحسب أنه يحسب لنفسه آباء أشرافاً فضلا، وعمومة وأخوة - انتهى كلام البلخي -.
وقوله { إن الله عليم خبير } يعني بمن يعمل طاعاته ويتقي معاصيه { خبير } بذلك لا يخفى عليه شيء من ذلك. ثم وصف المؤمنين الذين تقدم ذكرهم فقال { أولئك هم الصادقون } على الحقيقة الذين يستحقون ثواب الله تعالى.