التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ
١
-المائدة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

هذا خطاب من الله (تعالى) للمؤمنين المعترفين بوحدانيته تعالى المقرين له بالعبودية المصدقين لرسوله (صلى الله عليه وسلم) في نبوته، وفيما جاء به من عند الله من شريعة الاسلام، أمرهم الله بايفاء العقود وهي العهود التي عاهدوها مع الله وأوجبوا على انفسهم حقوقاً، والزموا نفوسهم بها فروضاً امرهم الله تعالى بالاتمام بالوفاء والكمال لما لزمهم يقال: أوفى بالعهد ووفى به وأوفى به لغة أهل الحجاز. وهي لغة القرآن، واختلف اهل التأويل في العقود التي امر الله (تعالى) بالوفاء بها في هذه الآية بعد اجماعهم على ان المراد بالعقود العهود، فقال قوم: هي العقود التي كان اهل الجاهلية عاقد بعضهم بعضاً على النصرة والمؤازرة. والمظاهرة على من حاول ظلمهم او بغاهم سوءً وذلك هو معنى الحلف. ذهب اليه ابن عباس ومجاهد، والربيع ابن أنس والضحاك وقتادة والسدي وسفيان الثوري.
والعقود جمع عقد. وأصله عقد الشيء بغيره. وهو وصله به، كما يعقد الحبل إذا وصل به شيئاً. يقال منه: عقد فلان بينه وبين فلان عقداً فهو يعقده. قال الحطيئة:

قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا

وذلك إذا واثقه على امر عاهده على عهد بالوفاء له بما عاقده عليه من امان، أو ذمة أو نصرة، أو نكاح أو غيره ذلك. قال قتادة: هي عقود الجاهلية الحلف. ويقال: اعقدت العسل فهو عقيد ومعقد وروى بعضهم عقدت، العسل والكلام وأعقدت. وقال آخرون: هي العهود التي أخذ الله على عباده بالابان به، وطاعته فيما احل لهم أو حرم عليهم. روي ذلك عن ابن عباس وقال: هو ما أحل وحرم وما فرض، وما حد في القرآن كله، فلا تعدوا أو لا تنكثوا، ثم سدد فقال: { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه إلى قوله: سوء الدار }. وبه قال أيضاً مجاهد: وقال قوم: بل العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ويعقدها المرء على نفسه كعقد الايمان، وعقد النكاح، وعقد العهد، وعقد البيع، وعقد الحلف. ذهب اليه عبد الله بن عبيدة وابن زيد، وهو عبد الرحمن بن زيد بن اسلم عن ابيه. وقال اخرون: ذلك امر من الله لاهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في التوراة والأنجيل في تصديق محمد (صلى الله عليه واله) وما جاء به من عند الله. ذكر ذلك ابن جريج وأبو صالح. وقال الجبائي: أراد به الوفاء بالايمان فيما يجوز الوفاء به. فاما ما كان يميناً بالمعصية، فعليه حنثه وعليه الكفارة. وعندنا ان اليمين في معصية لا تنعقد، ولا كفارة في خلافها. وأقوى هذه الاقوال ما حكيناه عن ابن عباس أن معناه أوفوا بعقود الله التي أوجبها عليكم، وعقدها فيما أحل لكم وحرم، وألزمكم فرضه. وبين لكم حدوده. ويدخل في جميع ذلك ما قالوه إلا ما كان عقداً على المعاونة على أمر قبيح. فان ذلك محظور بلا خلاف.
وقوله: { أحلت لكم بهيمة الأنعام } اختلفوا في تأويل بهيمة الانعام في هذه الآية فقال قوم: هي الانعام كلها: الابل والبقر، والغنم. ذهب اليه الحسن وقتادة والسدي والربيع والضحاك، وقال اخرون: أراد بذلك اجنة الأنعام التي توجد في بطون امهاتها إذا ذكيت الامهات. وهي ميتة. ذهب اليه ابن عمر وابن عباس. وهو المروي عن ابي عبد الله. والأولى حمل الآية على عمومها في الجميع.
والانعام جمع نعم، وهو اسم للابل، والبقر والغنم خاصة عند العرب كما قال تعالى: { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون } ثم قال: { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة } ففضل جنس النعم من غيرها من اجناس الحيوان وأما بهائمها فانها أولادها. وقال الفراء بهيمة الانعام: وحشها كالظباء، وبقر الوحش، والحمر الوحشية. وانما سميت بهيمة الانعام، لان كل حي لا يميز، فهو بهيمة الانعام، لانه ابهم عن ان يميز.
وقوله: { إلا ما يتلى عليكم } اختلفوا في المراد بقوله { إلا ما يتلى عليكم } فقال بعضهم: أراد بذلك أحلت لكم أولاد الابل، والبقر والغنم إلا ما بين الله تعالى فيما يتلى عليكم بقوله: { حرمت عليكم الميته والدم... الآية } ذهب اليه مجاهد وقتادة وقال: الميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه. وبه قال السدي وابن عباس. وقال اخرون: استثنى من ذلك الخنزير روي ذلك أيضاً عن ابن عباس، والضحاك. والاول أقوى، لان قوله: { إلا ما يتلى عليكم } يجب حمله على عمومه في جميع ما حرم الله (تعالى) في كتابه. والذي حرمه هو ما ذكره في قوله: { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به... إلى آخر الآية } والخنزير وإن كان محرماً، فليس من بهيمة الانعام، فمتى حملناه عليه كان الاستثناء منقطعاً، ومتى خصصنا بالميتة والدم، كان الاستثناء متصلا. وإن حملناه على الكل نكون غلينا حكم الميتة وما ذكر بعده، فيكون الاستثناء أيضاً حقيقة ومتصلا. واختار الطبري تخصيصه بالميتة والدم، وما أهل لغير الله به. قال الحسين ابن علي المغربي إلا ما يتلى معناه من البحيرة والسائبة والوصيلة فلا تكون المحرم، واستثنى ها هنا ما حرمه (تعالى) فلا يليق بذلك.
وقوله: { غير محلي الصيد وأنتم حرم } اختلفوا في تأويله فقال بعضهم: معناه أوفوا بالعقود غير محلين الصيد وانتم حرم أحلت لكم بهيمة الانعام. ويكون فيه التقديم والتاخير، فغير يكون منصوباً على هذا الحال مما في قوله: { أوفوا بالعقود } من ذكر الذين آمنوا. وتقدير الكلام أوفوا أيها الذين آمنوا بعقود الله التي عقدها عليكم في كتابه لا محلين الصيد، وانتم حرم. وقال اخرون: معنى ذلك احلت لكم بهيمة الانعام الوحشية من الظباء، والبقر والحمر غير محلي الصيد غير مستحلين اصطيادهم، وانتم حرم، وإلا ما يتلى عليكم (فغير) على هذا منصوب على الحال من الكاف، والميم اللين في قوله: { أحلت لكم بهيمة الأنعام } والتقدير أحلت لكم يا أيها الذين آمنوا بهيمة الانعام، لا مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم وقال اخرون: معناه أحلت لكم بهيمة الانعام كلها إلا ما يتلى عليكم. بمعنى إلا ما كان منها وحشياً، فانه صيد، ولا يحل لكم وانتم حرم. والتقدير على هذا أحلت لكم بهيمة الانعام كلها إلا ما بين لكم من وحشها غير مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم، فتكون (غير) منصوبة على الحال في الكاف والميم في قوله: إلا ما يتلى عليكم. ذهب إلى ذلك الربيع، والحرم جمع حرام. وهو المحرم قال الشاعر:

فقلت لها حثي اليك فانني حرام وإني بعد ذاك لبيب

أي واني ملب.
وقوله: { إن الله يحكم ما يريد } معناه إن الله يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما يريد تحليله، وتحريم ما يريد تحريمه، وايجاب ما يريد ايجابه. وغير ذلك من احكامه وقضاياه، فافعلوا ما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم عنه.
[الاعراب]:
(وما) في قوله: { إلا ما يتلى عليكم } في موضع نصب بالاستثناء. وقال الفراء يجوز أن يكون موضعها الرفع. كما تقول جاءني القوم، إلا زيداً وإلا زيد قال الزجاج: وهذا لا يجوز إلا أن تكون إلا بمعنى غير، فتكون صفة. فاما بمعنى الاستثناء، فلا يجوز. وقوله عليه السلام:
"ذكاة الجنين ذكاة امه عندنا" معناه انه إذا ذكيت الام وخرج الولد ميتاً، قد اشعر او اوبر، جاز أكله. وبه قال الشافعي وأهل المدينة وقال ابو حنيفه: معناه انه يذكى كما تذكى امه وهو اختيار البلخي.