التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
١١٦
-المائدة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قوله { وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات } أي اذكر ويحتمل ثلاثة أوجه:
أولها - أن يكون معطوفاً على ما قبله، كأنه قال { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم } ثم قال: وذلك اذ يقول يا عيسى اذكر نعمتي واذ يقول له أأنت قلت للناس.
الثاني - قال البلخي: يمكن أن يكون لما رفع الله عيسى اليه قال له ذلك، فيكون المقال ماضيا.
والثالث - ذكره أيضا البلخي أن (إِذ) استعملت بمعنى (إِذا) فيصح حينئذ أن يكون القول من الله يوم القيامة، ومثله
{ ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت } كأنه قال اذ يفزعون، وقال { { ولو ترى إذ الظالمون موقوفون } كأنه قال اذا وقفوا لان هذا لم يقع بعد، وقال أبو النجم:

ثم جزاه الله عنا اذ جزا جنات عدن في العلاليِّ العلا

والمعنى اذا جرى، وقال الاسود (أعشى بني نهشل)

فالآن اذ هازلتهن قائما يقلن ألا لم يذهب المرء مذهبا

وقال أوس:

الحافظ الناس في تحوط اذا لم يرسلوا تحت مائذ ربعا
وهبت الشامل البليل واذ بات كميع الفتاة ملتفعا

يقال (إذا) و (إذ) بمعنى واحد، وقال بعض أهل اليمن:

وندمان يزيد الكأس طيبا سقيت اذا تغورت النجوم

فقال (إذا) والمعنى (إذ) لانه انما يخبر عما مضى. وقال أبو عبيدة (إذ) صلة. والمعنى قال الله: يا عيسى. وقد بينا فساد هذا القول فيما مضى فأما لفظ { قال } في معنى يقول فمستعمل كثيراً وان كان مجازاً، قال الله تعالى { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار } والمراد ينادي. وقد استعمل المستقبل بمعنى الماضي، قال زياد الاعجم في المغيرة بن المهلب يرثيه بعد موته:

فاذا مررت بقبره فانحر به خوص الركاب وكل طرف سابح
وانضج جوانب قبره بدمائها فلقد يكون أخادم وذبائح

فقال (يكون) ومعناه (كان) لدلالة الكلام عليه، لانه في مرثية له بعد موته. وقوله { يا عيسى بن مريم } يحتمل عيسى أن يكون منصوبا مثل ما تقول: يا زيد بن عبد الله، وهو الاكثر في كلام العرب. وانما يجوز ذلك اذا وقع الابن بين علمين، فأما اذا قلت يا زيد ابن الرجل لم يجز في زيد إِلا الضم. ويحتمل أن يكون عيسى في موضع الضم ويكون نداء { ابن } كأنه قال يا عيسى يا ابن مريم.
وقوله { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إِلهين من دون الله } تقريع في صورة الاستفهام والمراد بذلك تقريع وتهديد من ادعى ذلك، لأنه تعالى كان عالما بذلك هل كان أو لم يكن. ويحتمل وجهاً آخر - ذكره البلخي ان الله تعالى أراد أن يعلم عيسى أن قومه اعتقدوا فيه وفي أمه أنهما إِلهان كما أن الواحد منا اذا أرسل رسولا الى قوم أن يفعلوا فعلا فأدى الرسالة وانصرف فخالفوا ذلك وعلم المرسل ولم يعلم الرسول جاز أن يقول المرسل للرسول: أأنت أمرتهم بذلك؟ وغرضه أن يعلمه أنهم خالفوه. وانما قال { إِلهين } تغليباً للذكر على الانثى. والغرض بالكلام أن النصارى يعتقدون في المسيح أنه صادق لا يكذب وأنه الذي أمرهم بأن يتخذوه وأمه إِلهين، فاذا كذبهم الصادق عندهم الذي ينسبون الامر به اليه كان ذلك آكد في الحجة عليهم وأبلغ في التوبيخ لهم والتوبيخ ضرب من العقوبة. وقيل في قوله تعالى { إلهين } ثلاجة أوجه:
أحدها - أنهم لما عظموهما تعظيم الآلهة أطلق ذلك عليهما كما قال
{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } وانما أراد تقريعهم على معصيتهم.
والثاني - انهم جعلوه إِلها وجعلوا مريم والدة له ميزوها من جميع البشر تمييزاً شابهت الالهية وأطلق ذلك، لانه مستخرج من قصدهم. وان لم يكن صريح ألفاظهم، على طريقة الالزام لهم.
الثالث - انهم لما سمُّوه إِلها وعظموها هي، وكانا مجتمعين سماهما إِلهين على طريقة العرب كقولهم: القمران للشمس والقمر، والعمران لابي بكر وعمر قال الشاعر:

جزاني الزهدمان جزاء سوء وكنت المرء يجزى بالكرامة

يريد زهدماً وقيساً ابني حزن القيسين، وهذا كثير، وذكر لي بعض النصارى الذي قرأ كتب النصارى عن جاثليق لهم لم يكن في زمانة مثله: أنه سأله عن هذا فقال: كنت شاكا في ذلك الى أن قرأت في كتاب ذكره أن فيما مضى كان قوم يقال لهم المريمية كانوا يعتقدون في مريم أنها آلهة، فعلى هذا القول أقرب. وورد كما قلناه في الحكاية عن اليهود أنهم قالوا: عزير ابن الله. وقد ذكرناه في سورة التوبة.
وقوله { سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } معناه أنزهك أن يكون معك الهة وأن يكون للأشياء إِله غيرك، واعترف بأنه لم يكن لي أن أقول هذا القول. وقوله { إِن كنت قلته فقد علمته } أي لم أقله لاني لو كنت قلته لما خفي عليك إِذ كنت علام الغيوب. وقوله { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } أي تعلم غيبي ولا أعلم غيبك، لان ما في نفس عيسى وما في قلبه هو ما يغيبه عن الخلق، وانما يعلمه الله، وسمي ما يختص الله بعلمه بأنه في نفسه على طريق الازدواج في الكلام كما قال
{ ومكروا ومكر الله } } { { الله يستهزىء بهم } } { { يخادعون الله وهو خادعهم } } { { وجزاء سيئة سيئة مثلها } } { { وإن عاقبتم فعاقبوا } وكل ذلك وجه ازدواج الكلام، ويقوى هذا التأويل قوله { إِنك أنت علام الغيوب } لانه علل أنه انما يعلم ما في نفس عيسى، لانه علام الغيوب، وعيسى ليس كذلك، فلذلك لم يعلم ما يختص الله بعلمه.
والنفس في اللغة على ضروب: أحدها - نفس الانسان التي بها حياته، يقولون خرجت نفسه أي روحه وفي نفسى أن افعل أي في روعي. وثانيها أن نفس الشيء ذات الشيء يقولون: قتل فلان نفسه أي ذاته، وعلى هذا حمل قوله
{ ويحذركم الله نفسه } أي ذاته وقيل عذابه. والنفس الهم بالشىء كما يحكى أن سائلا سأل الحسن فقال: ان لي نفسين احداهما تقول لي حج، والآخر تزوج، فقال الحسن: النفس واحدة وانما لك همان همُّ بكذا وهم بكذا والنفس الأنفة كقولهم: ليس لفلان نفس أي لا أنفة له، والنفس الارادة يقولون نفس فلان في كذا أي ارادته قال الشاعر:

فنفساي نفس قالت ائت ابن بحدل تجد فرجا من كل غمى تهابها
ونفس تقول أجهد نجاءك ولا تكن كخاضبة لم يغن عنها خضابها

والنفس أيضاً العين التي تصيب الانسان يقال أصابت فلانا نفس أي عين ومنه قوله (صلى الله عليه وسلم) في رقيا "بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل عاهة فيك من كل عين عاين ونفس نافس وحسد حاسد" وقال عبيد الله بن قيس الرقيات:

تنقي نفسها النفوس عليها فعلى نحرها الرقى والتميم

وقال ابن الاعرابي: النفوس التي تصيب الناس بالنفس، والنفس أيضاً من الدباغ مقدار الدبغة.