التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٥٤
-المائدة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ نافع وأهل المدينة "يرتدد" بدالين، وبه قرأ ابن عامر، وكذلك هو في مصاحفهم. الباقون بدال واحدة مشددة، وكذلك هو في مصاحفهم. من أظهر ولم يدغم قال: لأن الحرف المدغم لا يكون إِلا ساكناً ولا يمكن الادغام في الحرف الذي يدغم حتى يسكن، لان اللسان يرتفع عن المدغم والمدغم فيه ارتفاعة واحدة، فاذا لم يسكن لم يرتفع اللسان ارتفاعة واحدة، واذا لم يرتفع كذلك لم يمكن الادغام، فاذا كان كذلك لم يسغ الادغام في الساكن لأن المدغم إِذا كان ساكناً والمدغم فيه كذلك التقى ساكنان، والتقاء الساكنين في الوصل في هذا النحو ليس من كلامهم فأظهر الحرف الاول في حركة وأسكن الثاني من المثلين، وهذه لغة أهل الحجاز، فلم يلتق الساكنان.
وحجة من أدغم أنه لما اسكن الحرف الاول من المثلين للادغام لم يمكنه أن يدغمه في الثاني والثاني ساكن فحرك المدغم فيه لالتقاء الساكنين وهذه لغة بني تميم. وفي القرآن نظيره قال الله تعالى:
{ { ومن يشاقق الرسول } وقال: { { ومن يشاقق الله ورسوله } }. واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على أربعة أقول:
فقال الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج إِنها نزلت في ابي بكر.
الثاني - قال السدي: نزلت في الانصار.
الثالث - قال مجاهد: نزلت في أهل اليمن، وروي ذلك عن النبي (صلى الله عليه وسلم) واختاره الطبري لمكان الرواية. وروي أنهم قوم أبي موسى الأشعري. وكانت وفودهم قد أتت أيام عمر، وكان لهم في نصرة الاسلام أثر. وقال أبو جعفر وأبوعبد الله (ع) وروي ذلك عن عمار وحذيفة، وابن عباس: أنها نزلت في أهل البصرة ومن قاتل علياً (ع) فروي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: يوم البصرة "والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم" وتلا هذه الآية. ومثل ذلك روى حذيفة، وعمار وغيرهما. والذي يقوي هذا التأويل أن الله تعالى وصف من عناه بالآية بأوصاف وجدنا أمير المؤمنين (ع) مستكملا لها بالاجماع، لأنه قال: { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين } وقد شهد النبي (صلى الله عليه وسلم) لأمير المؤمنين (ع) بما يوافق لفظ الآية في قوله وقد ندبه لفتح خيبر بعد فرار من فرعنها واحداً بعد واحد (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه) فدفعها الى أمير المؤمنين، فكان من ظفره ما وافق خبر الرسول (صلى الله عليه وسلم). ثم قال { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } فوصف من عناه بالتواضع للمؤمنين والرفق بهم، والعزة على الكافرين. والعزيز على الكافرين هو الممتنع من أن ينالوه مع شدة نكايته فيهم ووطأته عليهم، وهذه أوصاف أمير المؤمنين (ع) التي لا يدانى فيها ولا يقارب. ثم قال { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } فوصف - جل اسمه - من عنا بهذا الجهاد وبما يقتضي الغلية فيه، وقد علمنا أن أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) بين رجلين: رجلاً لا عناء له في الحرب ولا جهاد. والآخر له جهاد وعناء، ونحن نعلم قصور كل مجاهد عن منزلة أمير المؤمنين (ع) في الجهاد، فانهم مع علو منزلتهم في الشجاعة وصدق البأس لا يلحقون منزلته ولا يقاربون رتبته لانه عليه السلام المعروف بتفريج الغمم، وكشف الكرب عن وجه الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو الذي لم يحم قط عن قرن، ولا نكص عن هول، ولا ولىَّ الدبر، وهذه حالة لم تسلم لأحد قبله ولا بعده فكان (ع) بالاختصاص بالآية أولى لمطابقة أوصافه لمعناها.
فاما من قال أنها نزلت في أبي بكر فقوله بعيد من الصواب، لأنه تعالى إِذا كان وصف من أراده بالآية بالعزة على الكافرين وبالجهاد في سبيله مع اطراح خوف اللوم كيف يجوز أن يظن عاقل توجه الآية الى من لم يكن له حظ في ذلك الموقف لأن المعلوم أن أبا بكر لم يكن له نكاية في المشركين، ولا قتيل في الاسلام، ولا وقف في شئ من حروب النبي (صلى الله عليه وسلم) موقف أهل البأس والفناء، بل كان الفرار شيمته، والهرب ديدنه، وقد انهزم عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في مقام بعد مقام، فانهزم يوم أحد ويوم حنين، وغير ذلك، فكيف يوصف بالجهاد في سبيل الله - على ما يوصف في الآية - من لا جهاد له جملة. وهل العدول بالآية عن أمير المؤمنين (ع) مع العلم الحاصل بموافقة أوصافه لها الى غيره إِلا عصبية ظاهرة. ولم يذكر هذا طعناً على أبي بكر (رضى الله عنه) ولا قدحاً فيه، لان اعتقادنا فيه أجمل شئ، بل قلنا أليس في الآية دلالة على ما قال.
ومعنى { أذلة على المؤمنين } أي أهل لين ورقة { أعزة على الكافرين } أي أهل جفاة وغلظة. والذل بكسر الذال غير الذل بضمها، لأن الأول اللين والانقياد والثاني الهوان والاستخفاف. وروي عن علي (ع) وابن عباس (رحمة الله عليه) أن معنى { أذلة } أهل رحمة ورقة. ومعنى { أعزة } أهل غلظة وشدة. وقال الاعمش "أذلة" يعني ضعفاء.
ومحبة الله تعالى لخلقه إِرادة ثوابهم وإِكرامهم وإِجلالهم. ومحبتهم له إِرادتهم لشكره وطاعته وتعظيمه. والارتداد - عندنا - على ضربين: مرتد عن فطرة الاسلام، فانه يجب قتله ولا يستتاب، ويقسم ماله بين ورثته وتعتد منه زوجته عدة الوفاة من يوم إِرتداده. والآخر من أسلم عن كفر ثم ارتد فهذا يستتاب، فان تاب وإلا وجب عليه القتل، فان لحق بدار الحرب. اعتدت منه زوجته عدة الطلاق، فان رجع الى الاسلام في زمان العدة كان أملك بها، وإن لم يرجع وانقضت العدة فقد ملكت نفسها، ولا سبيل له عليها وإِن رجع فيما بعد. وأما المرأة فانها تستتاب على كل حال، فان تابت وإِلا حبست حتى تموت. وفي ذلك خلاف قد بيناه في مسائل الخلاف، فأما من يعتقد الجبر والتشبيه وأزلية صفات قديمة معه تعالى فهو كافر بلا خلاف بين أهل العدل. واختلفوا فمنهم من قال حكمه حكم المرتد يستتاب فان تاب وإِلا قتل. ومنهم من قال يستتاب ولا يقتل لانه لم يخرج عن الملة لاقراره بالشهادتين.
وقوله { يجاهدون في سبيل الله } صفة للقوم الذين وعد الله أن يأتي بهم إِن ارتدوا. وقوله { ولا يخافون لومة لائم } أي لا يخشون لوم أحد وعذله ولا يصدهم ذلك عن العمل بما أمرهم الله به وذلك اشارة الى هذا النعت الذي نعتهم به { ذلك فضل الله } أي ذلك فضل من الله وتيسر منه ولطف منه، ومنة من جهته { والله واسع عليم } يعني جواد على من يجود به عليه لا يخاف نفاد ما عنده { عليم } بموضع جوده وعطائه ولا يبذله الا لمن تقتضي الحكمة إِعطاؤه.