التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٦
-المائدة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

[القراءة]
قرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص ويعقوب، والاعشى إلا النقار { وأرجلكم } - بالنصب - الباقون بالجر وقرأ لمستم بلا الف حمزة والكسائي وخلف الباقون لامستم بالف ها هنا وفي النساء هذا خطاب للمؤمنين أمرهم الله إذا أرادوا القيام إلى الصلاة، وهم على غير طهر، أن يغسلوا وجوههم، ويفعلوا ما أمرهم الله به فيها. وحذف الارادة، لان في الكلام دلالة عليه، ومثله { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } ومعناه وإذا اردت قراءة القرآن فاستعذ، وإذا قمت فيهم فاقمت لهم الصلاة ومعناه فاردت أن تقيم لهم الصلاة. ثم اختلفوا هل يجب ذلك كلما أراد القيام إلى الصلاة او بعضها او في اي حال هي؟ فقال قوم: المراد به إذا اراد القيام اليها، وهو على غير طهر. وهو الذي اختاره الطبري والبلخي والجبائي والزجاج وغيرهم. وهو المروي عن ابن عباس، وسعد بن ابي وقاص، وابي موسى الاشعري وأبي العالية، وسعيد بن المسيب وجابر بن عبد الله، وابراهيم والحسن والضحاك، والاسود والسدي، وغيرهم. وقال آخرون: معناه إذا قمتم من نومَكم إلي الصلاة ذهب اليه زيد ابن اسلم والسدي وقال آخرون: المراد به كل حال قيام الانسان إلى الصلاة، فعليه ان يجدد طهر الصلاة. ذهب اليه عكرمة. وقال: كان علي يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ هذه الآية. وقال ابن سيرين إن الخلفاء كانوا يتوضؤن لكل صلاة، والاول هو الصحيح عندنا. وما روي عن علي (عليه السلام) في تجديد الوضوء عند كل صلاة محمول على الندب. وقال قوم: كان الفرض أن يتوضأ لكل صلاة، ثم نسخ ذلك بالتخفيف، وهو المروي عن ابن عمر انه حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن ابي عامر الغسيل حدثها أن النبي صلى الله عليه وآله أمر بالوضوء عند كل صلاة، فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث، فكان عبد الله يرى أن فرضه عليه، فكان يتوضأ وروى سليمان بن بريدة عن ابيه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتوضأ لكل صلاة، فلما كان عام الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد. فقال عمر: يا رسول الله صنعت شيئاً ما كنت تصنعه! قال: عمداً فعلته ياعمر. وقال الحسين بن علي المغربي: معنى إذا قمتم إذا عزمتم عليها وهممتم بها. قال الراجز للرشيد:

ما قاسم دون الفتى ابن امه وقد رضيناه فقم فسمه

فقال: يا أعرابي، ما رضيت ان تدعونا إلى عقد الامر له قعوداً حتى أمرتنا بالقيام، فقال: قيام عزم لا قيام جسم. وقال حريم الهمداني:

فحدثت نفسي أنها أو خيالها اتانا عشاء حين قمنا لنهجعاً

أي حين عزمنا للهجوع. وأقوى الاقوال ما حكيناه أولا من ان الفرض بالوضوء يتوجه إلى من اراد الصلاة وهو على غير طهر، فاما من كان متطهراً، فعليه ذلك استحباباً. وما روي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) والصحابة في تجديد الوضوء، فهو محمول على الاستحباب في جميع الأحوال، لاجماع أهل العصر على أن الفرض في الوضوء كان في كل صلاة، ثم نسخ، فعلمنا بذلك أن ما روي من تجديد الوضوء، كان على وجه الاستحباب. وقال قوم: إن الله (تعالى) أنزل هذه الآية اعلاماً للنبي (صلى الله عليه وآله) أنه لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصلاة دون غيرها من الاعمال، لانه كان إذا أحدث امتنع من الاعمال حتى يتوضأ فاباح الله له بهذه الآية أن يفعل ما بدا له من الاعمال بعد الحدث إلى عمل الصلاة، توضأ أو لم يتوضأ. وأمره بالوضوء للصلاة. روى ذلك عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن علقمة عن ابيه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا بال لم يرد جواب السلام حتى يتطهر للصلاة، ثم يجيب حتى نزلت هذه الآية.
وقوله: { فاغسلوا وجوهكم } امر من الله بغسل الوجه واختلفوا في حد الوجه الذي يجب غسله، فحده عندنا من قصاص شعر الرأس إلى محاذي شعر الذقن طولا وما دخل بين الوسطى والابهام عرضاً، وما خرج عن ذلك فلا يجب غسله. وما نزل من الشعر عن المحادر، فلا يجب غسله. وقال بعضهم: ما ظهر من بشرة الانسان من قصاص شعر رأسه منحدراً إلى منقطع ذقنه طولا، وما بين الاذنين عرضاً. قالوا والاذنان وما بطن من داخل الفم والانف والعين، فليس من الوجه، ولا يجب غسل ذلك، ولا غسل شيء منه. واما ما غطاه الشعر كالذقن، والصدغين، فان امرار الماء على ما علا الشعر عليه يجزي من غسل ما بطن منه من بشرة الوجه، لان الوجه عندهم ما ظهر لعين الناظر من ذلك يقابلها دون غيره. وهذا بعينه مذهبنا. إلا ما خرج عن الابهام والوسطى إلى الاذن، فانه لا يجب غسله. ذهب إلى ما حكيناه إبراهيم، ومغيرة والحسن وابن سيرين، وشعبة والزهري وربعية وقتادة، والقاسم بن محمد وابن عباس، وابن عمر. قال ابن عمر: الاذنان من الرأس. وبه قال قتادة والحسن، ورواه أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وقال آخرون: الوجه كل ما دون منابت شعر الرأس إلى منقطع الذقن طولا، ومن الاذن إلى الاذن الأخرى عرضاً ما ظهر من ذلك لعين الناظر، وما بطن منه من منابت شعر اللحية، والعارضين، وما كان منه داخل الفم والأنف، وما أقبل من الاذنين على الوجه. وقالوا: يجب غسل جميع ذلك ومن ترك شيئاً منه لم تجزه الصلاة. ذهب اليه ابن عمر في رواية نافع عنه، وابو موسى الأشعري. ومجاهد وعطا والحكم، وسعيد بن جبير وطاووس، وابن شيرين والضحاك، وانس بن مالك وام سلمة، وابو ايوب وابو امامة، وعمار بن ياسر وقتادة كلهم قالوا بتخليل اللحية، فاما غسل باطن الفم، فذهب اليه مجاهد، وحماد وقتادة. واما من قال: ما أقبل من الاذنين يحب غسله، وما أدبر يجب مسحه فالشعبي. وقد بينا مذهبنا في ذلك. والذي يدل على صحة ذلك أن ما قلناه مجمع على انه من الوجه. ومن ادعى الزيادة فعليه الادلة. واستوفينا. ذلك في مسائل الخلاف وتهذيب الاحكام.
وقوله: { وأيديكم إلى المرافق } منصوب بالعطف على الوجوه الواجب غسلها. ويجب عندنا غسل الأيدي من المرافق، وغسل المرافق معها إلى رؤوس الاصابع، ولا يجوز غسلها من الاصابع إلى المرافق (وإلي) في الآية بمعنى مع كقوله: { تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } وقوله: { من أنصاري إلى الله } وأراد بذلك (مع) قال امرؤ القيس:

له كفل كالدعص لبده الندى الي حارك مثل الرتاج المضبب

وقال النابغة الجعدي:

ولوح ذراعين في بركة الى جؤجؤ رهل المنكب

اراد مع حارك ومع رهل. وطعن الزجاج على ذلك فقال: لو كان المراد بالى مع، لوجب غسل اليد إلى الكتف، لتناول الاسم له. وانما المراد بالى الغاية والانتهاء، لكن المرافق يجب غسلها مع اليدين. وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لانا لو خلينا وذلك، لقلنا بما قاله. لكن خرجنا بدليل. ودليلنا علي صحة ما قلناه: اجماع الامة على أنه متى بدأ من المرافق كان وضوءه صحيحاً وإذا جعلت غاية ففيه الخلاف. واختلف أهل التأويل في ذلك، فقال مالك بن أنس: يجب غسل اليدين إلى المرفقين، ولا يجب غسل المرفقين. وهو قول زفر. وقال الشافعي: لا أعلم خلافاً في ان المرافق يجب غسلها. وقال الطبري: غسل المرفقين، وما فوقهما مندوب اليه غير واجب. وانما. اعتبرنا غسل المرافق، لاجماع الأمة على أن من غسلهما صحت صلاته. ومن لم يغسلهما، ففيه الخلاف. والمرافق جمع مرفق. وهو المكان الذي يرتفق به، ويتكأ عليه على المرفقة وغيرها.
وقوله: { وامسحوا برؤسكم } اختلفوا في صفة المسح، فقال قوم: يمسح منه ما يقع عليه اسم المسح، وهو مذهبنا. وبه قال ابن عمر، والقاسم بن محمد، وعبد الرحمن بن ابي ليلى، وابراهيم والشعبي وسفيان. واختاره الشافعي واصحابه والطبري. وذهب قوم إلى انه يجب مسح جميع الرأس ذهب اليه مالك. وقال ابو حنيفة، وابو يوسف ومحمد: لا يجوز مسح الرأس باقل من ثلاثة أصابع. وعنه روايتان فيهما خلاف، ذكرناهما في الخلاف. وعندنا لا يجوز المسح إلا على مقدم الرأس. وهو المروي عن ابن عمر والقاسم بن محمد، واختاره الطبري. ولم يعتبر احد من الفقهاء ذلك. وقالوا: أي موضع مسح أجزاه وإنما اعتبرنا المسح ببعض الرأس، لدخول الباء الموجبة، للتبعيض لان دخولها في الموضع الذي يتعدى الفعل فيه بنفسه لا وجه له غير التبعض وإلا كان لغواً. وحملها على الزيادة لا يجوز مع إمكان حملها على فائدة مجددة، فان قيل: يلزم على ذلك المسح ببعض الوجه في التيمم قلنا كذلك نقول، لانا نقول بمسح الوجه من قصاص الشعر إلى طرف الانف ومن غسل الرأس، فانه لا يجزيه عن المسح عندنا وخالف جميع الفقهاء في ذلك، وقالوا يجزيه لانه يشتمل عليه. وهذا غير صحيح، لان حد المسح هو إمرار العضو الذي فيه نداوة على العضو الممسوح من غير أن يجري عليه الماء. والغسل لا يكون الا بجريان الماء عليه، فمعناهما مختلف، وليس إذا دخل المسح في الغسل يسمى الغسل مسحاً، كما أن العمامة لا تسمى خرقة، وان كانت تشتمل على خرق كثيرة.
وقوله: { وأرجلكم إلى الكعبين } عطف على الرؤوس فمن قرأ بالجر ذهب إلى انه يجب مسحهما كما وجب مسح الرأس، ومن نصبهما ذهب إلى انه معطوف على موضع الرؤوس، لان موضعها نصب لوقوع المسح عليها، وانما جر الرؤوس لدخول الباء الموجبة للتعبيض على ما بيناه فالقراءتان جميعاً تفيدان المسح على ما نذهب اليه. وممن قال بالمسح ابن عباس والحسن البصري وابو على الجبائي ومحمد بن جرير الطبري، وغيرهم ممن ذكرناهم في الخلاف، غير أنهم أوجبوا الجمع بين المسح والغسل المسح بالكتاب، والغسل بالسنة وخيرة الطبري في ذلك. وأوجبوا كلهم استيعاب جميع الرجل ظاهراً وباطناً. وعندنا أن المسح على ظاهرهما من رؤوس الأصابع إلى الكعبين. وهما الناتئان في وسط القدم على ما استدل عليه. وقال عكرمة عن ابن عباس: الوضوء غسلتان ومسحتان. وبه قال أنس بن مالك. وقال عكرمة ليس على الرجلين غسل إنما فيهما المسح. وبه قال الشعبي: ألا ترى أن التيمم يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحاً. وقال قتادة افترض الله مسحتين وغسلتين. روى أوس ابن أبي أوس قال: رأيت النبي (صلى الله عليه وآله) توضأ ومسح على نعليه، ثم قام فصلي. وروى حذيفة قال: أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سباطة قوم، فبال عليها قائماً، ثم دعا بماءٍ، فتوضأ ومسح على نعليه. وروى حبة الغربي قال: رأيت علي ابن ابي طالب (عليه السلام) شرب في الرحبة قائماً، ثم توضأ ومسح علي نعليه. وروي عن ابن عباس أنه وصف وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فمسح على رجليه. وعنه أنه قال: إن كتاب الله المسح ويأبى الناس الا الغسل. وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال ما نزل القرآن إلا بالمسح. فان قيل: القراءة بالجر ليست على العطف على الرؤوس في المعنى. وانما عطف عليها على طريق المجاورة، كما قالوا: حجر ضب خرب، وخرب، من صفات الحجر لا الضب وكما قال الشاعر:

كان بثيراً في عرانين وبله كبير اناس في بجاد مزمل

والمزمل من صفة الكبير لا البجاد. وقال الاعشى:

لقد كان في حول ثواء ثويته تقضى لبانات ويسام سائم

قلنا: هذا لا يجوز من وجوه:
احدها - ما قال الزجاج أن الاعراب بالمجاورة، لا يجوز في القرآن، وانما يجوز ذلك في ضرورة الكلام والشعر.
والثاني - أن الاعراب بالمجاورة لا يكون مع حرف العطف فاما قول الشاعر:

فهل انت ان ماتت اتانك راحل الى آل بسطام بن قيس فخاطب

قالوا: جر مع حرف العطف الذي هو الفاء، فانه يمكن أن يكون أراد الرفع وانما جر الراوي وهما. ويكون عطفاً على راحل يكون قد أقوى لان القصيدة مجرورة. وقال قوم: أراد بذلك الامر وإنما جر لاطلاق الشعر.
والثالث - أن الاعراب بالمجاورة إنما يجوز مع ارتفاع اللبس. فاما مع حصول اللبس، فلا يجوز، ولا يشتبه على احد أن خرب من صفة حجر، لا الضب. وكذلك قوله: مزمل من صفة الكبير لا البجاد. وليس كذلك في الآية، لان الأرجل يمكن أن تكون ممسوحة ومغسولة، فاما قول الشاعر: ثواءٍ ثويته، فانما جره بالبدل من الحول والمعنى لقد كان في ثواءٍ ثويته تقضى لبانات. وهو من بدل الاشتمال، كقوله: { قتل أصحاب الأخدود النار }. وقول الشاعر:

لم يبق الا اسير غير منفلت وموثق في عقال الاسر مكبول

فليس خفض موثق على المجاورة، لان معنى البيت لم يبق غير اسير قالا بمعنى غير وهي تعاقبها في الاستثناء. فقوله غير موثق عطف المعنى على موضع اسير. وتقديره لم يبق غير اسير وغير منفلت. واما قوله: { وحور عين } في قراءة من جرهما، فليس بمجرور على المجاورة، بل يحتمل امرين:
احدهما - أن يكون عطفاً على قوله: { يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين } الى قوله: { وحور عين } عطف على اكواب. وقولهم: انه لا يطاف إلا بالكاس غير مسلم، بل لا يمتنع أن يطاف بالحور العين كما يطاف بالكاس وقد ذكر في جملة ما يطاف به الفاكهة واللحم.
والثاني - أنه لما قال: { أولئك المقربون في جنات النعيم } عطف بحور عين على جنات النعيم فكانه قال: هم في جنات النعيم. وفي مقاربة أو معاشرة حور عين. ذكره أبو علي الفارسي، فاما من قال: الرجلان ممسوحان ويراد بالمسح الغسل، فقوله: يبطل بما قلناه من أن المسح غير الغسل. واستشهادهم بقولهم: تمسحت للصلاة وأنهم سموا الغسل مسحاً. وقوله: { فطفق مسحاً بالسوق والأعناق }، وانه أراد غسلها باطل بما قدمناه، ولانه لو كان ذلك محتملا لغة، لما احتمل شرعاً، لان الشرع فرق بين الغسل والمسح، ولذلك قالوا بعض اعضاء الطهارة مغسولة، وبعضها ممسوحة. وفلان يرى غسل الرجلين، وفلان يرى مسحهما، ولانه لا خلاف أن الرأس ممسوح مسحاً ليس بغسل، فلا بد ان يكون حكم الرجلين حكمه، لكونهما معطوفتين عليه. وقولهم: تمسحت للصلاة، فلأنهم لما أرادوا أن يخبروا بلفظ مختصر عن جميع أفعال الصلاة، لم يخز أن يقولوا اغتسلت للصلاة، لان في الطهارة ما ليس بغسل. واستطالوا أن يقولوا أغتسلت وتمسحت للصلاة قالوا: بدلا من ذلك تمسحت توسعاً، ومجازاً. وقوله: { فطفق مسحاً بالسوق } فاكثر المفسرين على ان المراد به فطفق ضرباً. ذهب اليه الفراء وأبو عبيدة. وقال آخرون: أراد المسح في الحقيقة، وأنه كان مسح أعراقها وسوقها. وانما حمل على الغسل شاذ منهم ومن قال القراءة تقتضي المسح غير أنه المسح على الخفين، فقوله باطل، لان الخف لا يسمى رجلا في لغة ولا شرع. والله (تعالى) أمر بايقاع الفرض علي ما يسمى رجلا في الحقيقة. واما لقراءة بالنصب، فقد بينا أنها معطوفة علي موضع الرؤوس لان موضعها النصب، والحكم فيها المسح والعطف على الموضع جائز، لانهم يقولون: لست بقائم ولا قاعداً. ويقولون حسبت بصدره وصدر زيد وان زيداً في الدار وعمرو، فيرفع عمرو بالعطف على الموضع. وقال الشاعر:

معاوي اننا بشر فاسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا

وقال اخر:

هل انت باعث دينار لحاجتنا او عبد رب اخا عون بن مخراق

وانما نصب عبد رب، لان التقدير باعث ديناراً، فحمله على الموضع، وقد سوغوا العطف على المعنى، وان كان اللفظ لا يقتضيه قال الشاعر:

جئني بمثل بني عمرو لقومهم أو مثل اسرة منظور بن سبار

لما كان معنى جئني هات مثلهم، أو اعطني مثلهم. قال: أو مثل بالنصب عطفاً على المعنى، وعطف الأرجل على الايدي لا يجوز، لان الكلام متى حصل فيه عاملان: قريب وبعيد لا يجوز إعمال البعيد دون القريب مع صحة حمله، عليه. لا يجوز أن يقول القائل: ضربت زيداً وعمراً وأكرمت خالداً وبكراً. ويريد بنصب بكر العطف على زيد أو عمرو المضروبين، لان ذلك خروج عن فصاحة الكلام، ودخول في معنى اللغو وبمثل ما قلناه ورد القران واكثر الشعر قال الله تعالى: { وإنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً } ولو اعمل الاول، لقال: كما ظننتموه. وقال { آتوني أفرغ عليه قطراً } ولو اعمل الاول، لقال أفرغه. وقال: { هاؤم اقرأوا كتابيه } ولو اعمل الاول لقال: هاؤم اقرأوه. وقال الشاعر:

قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنى غريمها

ولو أعمل الاول، لقال: فوفاه غريمه. فاما قول أمرئ القيس:

فلو انما أسعى لادنى معيشة كفاني ولم اطلب قليل من المال

فانما أعمل الاول للضرورة، لانه لم يجعل القليل مطلوباً وانما كان المطلوب عنده الملك. وجعل القليل كافياً. ولو لم يرد هذا ونصب، لفسد المعنى. فاما من نصب بتقدير واغسلوا أرجلكم، كما قالوا:

متقلداً سيفاً ورمحاً وعلفها تبناً وماء بارداً

فقد اخطأ، لان ذلك إنما يجوز إذا استحال حمله على اللفظ. فاما إذا جاز حمله علي ما في اللفظ، فلا يجوز هذا التقدير. ومن قال يجب غسل الرجلين، لانها محدودتان كاليدين، فقوله ليس بصحيح، لانا لا نسلم ان العلة في كون اليدين مغسولتين كونهما محدودتين. وانما وجب غسلهما، لانهما عطفاً على عضو مغسول. وهو الوجه. فكذلك إذا عطف الرجلين على ممسوح هو الرأس، وجب أن يكونا ممسوحين. والكعبان عندنا هما الناتئان في وسط القدم. وبه قال محمد بن الحسن وإن أوجب الغسل. وقال اكثر المفسرين والفقهاء: الكعبان هما عظما الساقين يدل على ما قلناه أنه لو أراد ما قالوا، لقال إلى الكعاب، لان في الرجلين منها أربعة. وايضاً فكل من قال: يجب مسح الرجلين، ولا يجوز الغسل قال الكعب هو ما قلناه، لان من خالف في أن الكعب ما قلناه على قولين: قائل يقول بوجوب الغسل، وآخر يقول يالتخيير. قال الزجاج: كل مفصل للعظام فهو كعب.
وفي الآية دلالة على وجوب الترتيب في الوضوء من وجهين:
احدهما - ان الواو يوجب الترتيب لغة على قول الفراء وأبي عبيد وشرعا على قول كثير من الفقهاء، ولقوله (عليه السلام): ابدأوا بما بدأ الله به.
والثاني - ان الله أوجب على من يريد القيام الى الصلاة إذا كان محدثاً أن يغسل وجهه أولا، لقوله: { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } والفاء توجب التعقيب والترتيب بلا خلاف، فاذا ثبت أن البداءة بالوجه هو الواجب، ثبت في باقي الاعضاء، لان أحداً لا يفرق ويقويه قوله (عليه السلام) للاعرابي - حين علمه الوضوء، فقال:
"هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" ، فان كان رتب فقد بين انه الواجب الذى لا يقبل الله الصلاة إلا به، وان لم يرتب لزم أن يكون من رتب، لا يجزيه وقد اجتمعت الامة على خلافه. وفي الآية دلالة على أن من مسح على العمامة أو الخفين لا يجزيه، لان العمامة لا تسمى رأساً. والخف لا يسمى رجلا كما لا يسمى البرقع وما يستر اليدين وجهاً ولا يداً. وما روي من المسح على الخفين أخبار احاد لا يترك لها ظاهر القرآن. على أنه روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: نسخ ذلك بهذه الآية وكذلك قال لمن قال: اقبل المائدة أو بعدها. وفي الآية دلالة على وجوب النية في الوضوء، لانه قال: إذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا. وتقديره فاغسلوا للصلاة كما يقول القائل: إذا أردت لقاء عدوك، فخذ سلاحك بمعنى فخذ سلاحك للقائه ولا يمكن أن يكون غاسلا هذه الاعضاء للصلاة إلا بنية. وقوله: { وإن كنتم جنباً فاطهروا } معناه وإن أصابتكم جنابة وأردتم القيام الى الصلاة فاطهروا بالاغتسال. والجنابة تكون بشيئين:
احدهما - بانزال الماء الدافق في النوم أو اليقظة. وعلى كل حال بشهوة كان أو بغير شهوة.
والآخر - بالتقاء الختانتين وحده غيبوبة الحشفة أنزل أو لم ينزل، والجنب يقع على الواحد والجماعة والاثنين، والمذكر والمؤنث مثل رجل عدل، وقوم عدل، ورجل زور وقوم زور، ونحو ذلك وهو بمنزلة المصدر قال الزجاج: تقديره ذو جنب. ويقال أجنب الرجل وجنب واجتنب والفعل الجنابة وقد حكي في جمعه أجناب والأول أظهر. واصل الجنابة البعد قال علقمة:

فلا تحرمني نائلا عن جنابة فاني امرؤ وسط القباب غريب

وقوله: { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } معناه وان كنتم مرضى يعني ان كنتم جرحى أو مجدرين أو مرضى يضر بكم استعمال الماء وكنتم جنباً أو على غير وضوء قد بينا ذلك في سورة النساء وقوله: { أو على سفر } معناه وإن كنتم مسافرين وأنتم جنباً وجاء أحد منكم من الغائط معناه أو جاء أحد منكم من الغائط قد قضى حاجته فيه، وهو مسافر أو لامستم النساء معناه أو جامعتم النساء، وانتم مسافرون. وقد بينا اختلاف الفقهاء في اللمس، وبينا أصح الأقوال في ذلك، فلا وجه لاعادته، فان قيل: ما معنى تكرير قوله: لامستم النساء إن كان معنى اللمس الجماع مع انه قد تقدم ذكر الواجب عليه لقوله: { وإن كنتم جنباً فاطهروا } قلنا وجه ذلك أن المعني في قوله: { وإن كنتم جنباً } غير المعني الذي الزمه الله بقوله: او لامستم النساء، لانه (تعالى) بين الحكم بقوله: { وإن كنتم جنباً فاطهروا } معناه إذا كنتم واجدين للماء ممكنين لاستعماله، ثم بين حكمه إذا عدم الماء، أو لا يتمكن من استعماله أو هو مسافر غير مريض مقيم، فاعلمه أن التيمم هو فرضه، وهو طهارته. وقد بينا حكم التيمم ومعناه وكيفيته فيما مضى.
وقوله: { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } قد بينا جميع ذلك فيما مضى. جملته أنه يقول: أيها المؤمنون إذا قمتم الى الصلاة، وانتم على غير طهر، ولم تجدوا ماء، ولا تتمكنون من استعماله، فاقصدوا وجه الارض طاهراً نظيفاً غير نجس، ولا قذر { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } يعني مما يعلق بايديكم منه يعني من الصعيد وقد بينا كيفية التيمم، وأنه من قصاص الشعر الى طرف الانف، ومن الزند الي اطراف الاصابع في اليدين. وقد بينا اختلاف المفسرين والفقهاء في ذلك، فلا معنى لاعادته. وقوله: { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } معناه ما يريد الله مما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم الى الصلاة والغسل من الجنابة والتيمم صعيداً طيباً عند عدم الماء أو تعذر استعماله، ليلزمكم في دينكم من ضيق، ولا لنفتنكم فيه، وهو قول علي (عليه السلام) ومجاهد وجميع المفسرين. وقوله: { ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } معناه لكن يريد الله ليطهركم بما فرض عليكم من الوضوء والغسل من الاحداث والجنابة أن ينظف بذلك اجسامكم من الذنوب. واللام في قوله: { ليطهركم } دخلت لتبيين الارادة والمعنى ارادته لتطهيركم كما قال الشاعر:

اريد لانسى ذكرها فكانما تمثل لي ليلى بكل سبيل

روي ما قلناه عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي امامة ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "إن الوضوء يكفر ما قبله" وقوله: { وليتم نعمته عليكم } معناه ويريد الله مع تطهيركم من ذنوبكم بطاعتكم اياه فيما فرض عليكم من الوضوء والغسل إذا قمتم الى الصلاة مع وجود الماء، والتيمم مع عدمه، أن يتم نعمته باباحته لكم التيمم، وتصييره لكم الصعيد الطيب طهوراً رخصة منه لكم في ذلك مع سوابغ نعمه التي أنتم بها عليكم { لعلكم تشكرون } معناه ولتشكروا الله على نعمه التي أنعم بها عليكم بطاعتكم اياه فيما امركم به ونهاكم عنه.