التفاسير

< >
عرض

وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
٧١
-المائدة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي { ألا تكون } بالرفع. الباقون بالنصب. ولم يختلفوا في رفع { فتنة } فمن رفع، فالمعنى حسبوا فعلهم غير فاتن لهم، لأنهم كانوا يقولون { نحن أبناء الله وأحباؤه } ومن نصبه فلأن "أن" تنصب الفعل المضارع. وقال أبو علي الفارسي الافعال على ثلاثة أضرب: فعل يدل على ثبات الشئ واستقراره نحو العلم، وفعل يدل على خلاف الاستقرار والثبات، وفعل يحتمل الأمرين، فما كان معناه العلم وقع بعده (أن) الثقيلة، ولم تقع بعده الخفيفة الناصبة للفعل، لأن الثقيلة معناها إِثبات الشئ واستقراره والعلم بأنه كذلك أيضاً، فاذا أوقع عليه واستعمل معه كان وقعه ملائماً له. ولو استعملت الناصبة للفعل بعد ما معناه العلم واستقرار الشئ له لتباينا وتدافعا، فمن استعمال الثقيلة بعد العلم وايقاعه عليها قوله: { { ويعلمون أن الله هو الحق المبين } و { { ألم يعلم بأن الله يرى } ، لأن الباء زائدة. وكذلك التبين والتيقن، وما كان معناه العلم كقوله { { ثم بدا لهم من بعد ما رءوا الآيات } فهذا ضرب من العلم لأنه تبين لأمر قد بان فلذلك كان قسما كما كان علمت قسما في نحو قوله:

ولقد علمت لتأتين منيتي

وكذلك { { ثم بدا لهم من بعد مارءوا الآيات ليسجننه حتى حين } فهو بمنزلة علموا ليسجننه وعلى ذلك قول الشاعر:

بدا لي أني لست مدرك ما مضى (ولا سابقاً شيئاً اذا كان جائيا)

فأوقع بعدها الشديدة كما يوقعها بعد علمت واما ما كان معناه ما لم يثبت ولم يستقر فنحو (أطمع) و (أخاف) و (اشفق) و (أرجو) فهذا ونحوه لا يستعمل بعده إِلا الخفيفة الناصبة للفعل كقوله تعالى: { { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي } وقوله { تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم } وقوله: { { إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله. فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله } } وقوله: { { فخشينا أن يرهقهما } وقوله { أأشفقتم أن تقدموا } وكذلك أرجو، وعسى، ولعل فأما ما يستعمل في الامرين نحو حسبت وظننت وزعمت فهذا النحو يجعل مرة بمنزلة (أرجو) و (أطمع) من حيث كان أمراً غير مستقر ومرة يجعل بمنزلة العلم من حيث استعمل استعماله. ومن حيث كان خلافه. والشئ قد يجري مجرى الخلاف نحو (عطشان) و (ريان) فاما استعمالهم استعمال العلم، فلأنهم قد أجابوه بجواب القسم. حكى سيبويه ظننت ليسقيني. وقيل في قوله { { وظنوا ما لهم من محيص } ان النفي جواب الظن كما كان جواباً لعلمت في قوله { علمت ما أنزل هؤلاء إِلا رب السماوات } وكلا الوجهين جاء به القرآن مثل قراءة من نصب قوله { { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا } }{ { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم } } { { ألم أحسب الناس أن يتركوا } ومثل قراءة من رفع قوله { { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم } } { { أيحسبون إِنما نمدهم به من مال وبنين } } { { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه } فهذه مخففة من الشديدة. ومثل ذلك في الظن قوله: { { تظن أن يفعل بها فاقرة } وقوله { إِن ظنا أن يقيما حدود الله } ومن الرفع قوله: { { وأَنا ظننا أن لن تقول الانس والجن.. وأَنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً } وإِن ها هنا الخفيفة من الثقيلة لأن الناصبة للفعل لا تقع بعدها (أن) لاجتماع الحرفين في الدلالة على الاستقبال كما لم تجتمع الناصبة مع السين، ولم يجتمعا كما لم يجتمع الحرفان بمعنى واحد. ولذلك كانت (ان) في قوله { { علم أن سيكون } المخففة من الشديدة. ومن ذلك قوله { { وظنوا أنهم أحيط بهم } فاما قوله: { { الذين يظنون إنهم ملاقوا ربهم } وقوله: { { ظننت أني ملاق حسابيه } فالظن ها هنا بمعنى العلم، وحسن وقوع الخفيفة من الشديدة في قول من رفع وإن كان بعده فعل لدخول (لا) وكونها عوضاً من حذف الضمير معه وايلاء ما لم يكن يليه. ولو قلت علمت أن يقول لم يجز حتى يأتي بما يكون عوضاً نحو (قد) و (لا) والسين وسوف، كما قال { علم أن سيكون } ولا يدخل على ذلك قوله: { { وأَن ليس للإنسان إلا ما سعى } فلم يدخل بين (أن) و (ليس) شئ لأن (ليس) ليس بفعل على الحقيقة. وأما (فتنة) فلو نصب لكان صحيحاً في العربية على تقدير: أن لا يكون قولهم فتنة. ولكن لم يقرأ به أحد. قال الرماني: وحد الحسبان هو قوة أحد النقيضين. في النفس على الآخر وأصله الحساب، فالنقيض القوي يحتسب به دون الآخر أي هو فيما يحتسب ولا يطرح ومنه الحسب لانه مما يحسب ولا يطرح لأجل الشرف ومنه قولهم: حسبك أي يكفيك، لأنه بحساب الكفاية ومنه احتساب الأجر، لأنه فيما يحتسب ويكفي.
والفتنة ها هنا العقوبة. وقيل البلية - في قول السدي وقتادة والحسن ومجاهد - وقيل: الشدة. وكل ذلك متقارب. وقال ابن عباس: الفتنة - ها هنا - الشرك. وأصل الفتنة الاختبار، ومنه افتتن بفلانة اذا هواها، لأنه يظهر ما يطوي من خبره بها. وفتنت الذهب في النار اذا خلصته ليظهر خبره في نفسه متميزاً من شائب غيره. وقوله
{ { يوم هم على النار يفتنون } أي يحرقون. فاذا هم خبث كلهم { { وفتناك فتوناً } أي اختبرناك اختباراً أي ليظهر خبرك على خلوص أمرك في طاعتك أو غير ذلك من حالك.
وقوله { فعموا وصموا } معناه عن الحق على وجه التشبيه بالأعمى والاصم لانه لا يهدي الى طريق الرشد في الدين كما لا يهتدي هذا الى طريق الرشد في الدنيا لأجل العمى والصمم، فكذلك اولئك لاعراضهم عن النظر.
وقوله { ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا } إِخبار منه تعالى أن هؤلاء الكفار حسبوا أن لا يكون فتنة على ما فسرناها { فعموا وصموا } وقتلوا الأنبياء وكذبوهم ثم أن فريقاً منهم تابوا فتاب الله عليهم { ثم عموا وصموا } يعني عادوا الى ما كانوا عليه. وقيل قوله { ثم عموا وصموا } في الاقرار بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وقوله: { كثير منهم } قال الزجاج يحتمل رفعه ثلاثة أوجه:
أحدها - ان يكون بدلاً من الفاء، فكأنه لما قال { عموا وصموا } ابدل الكثير منهم أي عمي وصم كثير منهم كما يقول جاءني قومك أكثرهم.
والثاني - أن يكون جمع الفعل متقدماً على لغة من قال اكلوني البراغيث، وذهبوا قومك. قال أبو عمرو الهذلي:

ولكن ديا في ابوه وامه بحوران يعصرن السليط اقاربه

الثالث ان يكون (كثيراً) خبر ابتداء محذوف والتقدير ذو العمى والصمم { كثير منهم } ثم بين تعالى { إِنه بصير } أي عالم { بما يعملون } أي بأعمالهم.