التفاسير

< >
عرض

جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰماً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٩٧
-المائدة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ ابن عامر وحده { قيماً للناس } بلا الف. الباقون قياما بالألف.
قال أبو علي الفارسي: قوله { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس } تقديره جعل الله حج الكعبة أو نصب الكعبة قياما لمعايش الناس أو مكاسب الناس، لأنه مصدر (قام) كأن المعنى قام بنصبه ذلك لهم، فاستتبت بذلك معايشهم، واستقامت أحوالهم به فالقيام كالعياذ والعيال. وعلى هذا لحقته تاء التأنيث في هذه المصادر فجاءت (فعالة) كالزيادة والسياسة والحياكة، فكما جاءت هذه المصادر على (فعال) أو (فعالة) كذلك حكم القيام أن يكون على (فعال).
ووجه قراءة ابن عامر أحد أمرين: إِما أن يكون جعله مصدراً كالشبع أو حذف الالف وهو يريدها كما يقصر الممدود، وهذا الوجه انما يجوز في الشعر دون الكلام. وانما أعلوا الواو فقلبوها ياءاً لاعتلال الفعل، ولم يصححوها كما صحت في الحول والعوض، ألا ترى أنهم قالوا ديمة وديم، وحيلة وحيل فأعلوها في المجموع لاعتلال آحادها، فاعلال المصدر لاعتلال الفعل أولى.
والقوام هو العماد تقول: هو قوام الامر وملاكه، وهو ما يستقيم به أمره وقلبت الواو ياءاً لانكسار ما قبلها في مصدر (فعل، يفعل) وهو قام بالأمر قياما كقولك صام صياما. فأما صحة الواو فمن قاومه قواما مثل حاوره حواراً قال الراجز:

قوام دنياً وقوام دين

وتقدير الآية جعل الله حج الكعبة أو نصب الكعبة قياما لمعاش الناس ومصالحهم.
وقوله { والشهر الحرام } معطوف على المفعول الأول لـ { جعل } كما تقول ظننت زيداً منطلقاً وعمراً أي فعل ذلك ليعلموا أن الله يعلم مصالح ما في السماوات والارض، وما يجري عليه شأنهم في معاشهم وغير ذلك مما يصلحهم { وأن الله بكل شيء عليم } بما يقيمهم، ويصلحهم عليه.
وقيل في قوله { قياماً للناس } ان معناه أمناً لهم. وقيل انه مما ينبغي أن يقيموا به. والاول أقوى. وقال قوم لما كان في المناسك زجراً عن القبيح ودعا الى الحق كان بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر أتباعه. وقال سعيد بن جبير { قياماً للناس } صلاحاً لهم. وقيل: يقوم به أبدانهم. وقيل { قياماً } يقومون به في متعبداتهم قال مجاهد وعكرمة: سميت الكعبة كعبة لتربيعها.
وقال أهل اللغة وانما قيل كعبة البيت واضيف لأن كعبة تربع اعلاه والكعوبة: النتوءَّ، فقيل للتربيع كعبة لنتوء زوايا المربع. ومنه كعب ثدي الجارية اذا نتأ ومنه كعب الانسان لنتوئه. وسميت الكعبة حراما لتحريم الله إياها ان يصاد صيدها أن يخلى خلاءها أو يعضد شجرها. وقوله { والشهر الحرام } قال الحسن: هي الاشهر الحرام الاربعة، فهذا على مخرج الواحد مذهب الجنس. وهي واحد فرد، وثلاثة سرد، فالفرد رجب، والسرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
و { القلائد } قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - ان الرجل من العرب كان ينتهي به الحال من الضرر والجوع الى ان يأكل العصب فيلقى الهدي مقلداً فلا يعرض له.
الثاني - أن من أراد الاحرام تقلد قلادة من شعر أو لحي الشجرة، فتمنعه من الناس حتى يأتي أهله.
الثالث - قال الحسن: القلائد ان يقلد الابل والبقر النعالا أو الخفاف، تقور تقويراً، على ذلك مضت السنة، فهذا على صلاح التعبد بها، وهذا هو المعتمد عليه عندنا.
فان قيل: ما معنى قوله { ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } بعد قوله { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس } وأي تعلق لها بذلك؟ وما في ذلك مما يدل على أنه بكل شيء عليم؟ قيل عن ذلك ثلاثة أجوبة:
أحدها - أنه تعالى لما اخبر بما في هذه السورة من قصة موسى وعيسى وقومهما وبالتوراة والانجيل، وما فيهما من الاحكام واخبار الامم وفصله، وذلك كله مما لم يشاهده محمد (صلى الله عليه وسلم) ولا قومه ولا أحد في عصره ولا وقفوا على شيء من ذلك، قال ذلك لتعلموا أن الله تعالى لولا أنه بكل شيء عليم لما جاز أن يخبركم عنهم، فاخباره بذلك يدل على أنه بكل شيء عليم. وأيضا فان ما جعله الله من البلد الحرام والشهر الحرام من الآيات والاعاجيب دالاً على أنه تعالى لا يخفى عليه شيء، لأنه جعل البيت الحرام والحرم أمنا، يأمن فيه كل شيء ويسكن قلبه فالظبي يأنس بالسبع والذئب مادام في الحرم، فاذا خرج عن الحرم خاف وطلبه السبع وهرب منه الظبي حتى يرجع الى الحرم، فاذا رجع اليه كف عنه السبع، وهذا من عظيم آيات الله وعجيب دلائله، وكذلك الطير والحمامة تأنس بالانسان، فاذا خرج من الحرم خافه ولم يدن من أحد حتى يعود الى الحرم، والطير يستشفي بالبيت الحرام اذا مرض يسقط على سطح البيت استشفاء به، فاذا زال عنه المرض لم ير على سطح البيت ولا محاذيه في الهواء إِجلالاً له وتعظيماً، مع أمور كثيرة يطول ذكرها، فيكون ما دبره الله من ذلك دالاً على أنه عالم بمصالح الخلق وبكل شيء. وأيضا فانه أخبرهم بأنه قد علم قبل أن يخلقهم ماهم صائرون اليه من القتال والغارة والسبي والسلب فجعل من سنن ابراهيم واسماعيل ان من دخل الحرم لم يقتل. وكذلك من عاذ بالبيت. وأن أشهر الحرم لا يجوز فيها قتال وأن من أهدى أو قلد أمن على نفسه، وكل ذلك يدل على أن من دبره عالم بالعواقب ولا يخفى عليه شيء من الاشياء على وجه من الوجوه.