التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
١٥
آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ
١٦
كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
١٧
وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
١٨
وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ
١٩
وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ
٢٠
وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ
٢١
وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ
٢٢
فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ
٢٣
-الذاريات

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ حمزة والكسائي وابو بكر عن عاصم { لحَق مثل } بالرفع على أنه صفة للحق الباقون بالنصب، ويحتمل نصبه وجهين:
أحدهما - قول الجرمي أن يكون نصباً على الحال، كأنه قيل: حق مشبهاً لنطقكم في الثبوت.
الثاني - قال المازني إن (مثل) مبني، لانه مبهم أضيف إلى مبني، كما قال الشاعر:

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات او قال

وقال: فجعل (مثل) مع (ما) كالأمر الواحد، كما قال { { لا ريب فيه } } وقولهم: خمسة عشر، فيكون على هذا (ما) زائدة وأضاف (مثل) إلى { إنكم تنطقون } فبناه على الفتح حين أضافه إلى المبني، ولو كان مضافاً إلى معرب لم يجز البناء نحو: مثل زيد. وقيل: يجوز أن يكون نصباً على المصدر، وكأنه قال إنه لحق حقاً كنطقكم.
لما حكى الله تعالى حكم الكفار وما أعده لهم انواع العذاب، أخبر بما أعده للمؤمنين المطيعين الذين يتقون معاصي الله خوفاً من عقابه، ويفعلون ما أوجبه عليهم فقال { إن المتقين في جنات وعيون } أي فى بساتين تجنها الاشجار { وعيون } ماء تجري لهم في جنة الخلد، فهؤلاء ينعمون وأولئك يعذبون { آخذين ما آتاهم ربهم } من كرامته وثوابه بمعنى آخذين ما أعطاهم الله من ذلك ونصب { آخذين } على الحال { إنهم كانوا قبل ذلك محسنين } يفعلون الطاعات وينعمون على غيرهم بضروب الاحسان، ثم وصفهم فقال { كانوا } يعني المتقين الذين وعدهم بالجنات { قليلا من الليل ما يهجعون } فى دار التكليف أي كان هجوعهم قليلا - في قول الزهري وإبراهيم - وقال الحسن: (ما) صلة وتقديره كانوا قليلا يهجعون، وقال قتادة: لا ينامون عن العتمة ينتظرونها لوقتها، كأنه قيل هجوعهم قليلا فى جنب يقظتهم للصلاة والعبادة. وقال الضحاك: تقديره كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا، ثم ابتدأ فقال { من الليل ما يهجعون } وتكون (ما) بمعنى النفي والمعنى إنهم كانوا يحيوون الليل بالقيام فى الصلاة وقراءة القرآن وغير ذلك. ولا يجوز ان تكون (ما) جحدا لانه لا يقدم عليها معمولها. والهجوع النوم - في قول قتادة وابن عباس وإبراهيم والضحاك { وبالأسحار هم يستغفرون } أي يطلبون من الله المغفرة والستر لذنوبهم فى قول الحسن وابن زيد - وقال مجاهد: معناه يصلون فى السحر. وقوله { وفي أموالهم حق } وهو ما يلزمهم لزوم الديون من الزكوات وغير ذلك أو ما التزموه من مكارم الاخلاق، فهو الذي رغب الله فيه بقوله { وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } فالسائل هو الذي يسأل الناس، والمحروم هو المحارف - في قول ابن عباس ومجاهد والضحاك - وقال قتادة والزهري: المحروم هو المتعفف الذي لا يسأل. وقال إبراهيم: المحروم الذي لا سهم له فى الغنيمة. وقيل: المحروم الممنوع الرزق بترك السؤال أو إذهاب مال او سقوط سهم او خراب ضيعة إذا صار فقيراً من هذه الجهة. وقال الشعبي: اعياني أن أعلم ما المحروم. وفرق قوم بين الفقير والمحروم بأنه قد يحرمه الناس بترك الاعطاء، وقد يحرم نفسه بترك السؤال، فاذا سأل لا يكون ممن حرم نفسه بترك السؤال، وإنما حرمه الغير، وإذا لم يسأل فقد حرم نفسه وحرمه الناس.
وقوله { وفي الأرض آيات } أي دلالات واضحات وحجج نيرات { للموقنين } الذين يتحققون بتوحيد الله، وإنما أضافها إلى الموقنين، لانهم الذين نظروا فيها وحصل لهم العلم بموجبها وآيات الأرض جبالها ونباتها ومعادنها وبحارها، ووقوفها بلا عمد لتصرف الخلق عليها.
وقوله { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } معناه وفى أنفسكم أفلا تتفكرون بأن تروها مصرّفة من حال إلى حال ومنتقلة من صفة إلى أخرى، فكنتم نطفاً فصرتم أحياء ثم كنتم أطفالا فصرتم شباباً، ثم صرتم كهولا وكنتم ضعفاء فصرتم أقوياء، فهلا دلكم ذلك على ان لها صانعاً صنعها ومدبراً دبرها يصرفها على ما تقتضيه الحكمة ويدبرها بحسب ما توجبه المصلحة. وقيل: المعنى أفلا تبصرون بقلوبكم نظر من كأنه يرى الحق بعينه.
وقوله { وفي السماء رزقكم } ينزله الله اليكم بأن يرسل عليكم الغيث والمطر فيخرج به من الأرض أنواع ما تقتاتونه وتلبسونه وتنتفعون به { وما توعدون } به من العذاب ينزله الله عليكم إذا استحققتموه، وقال الضحاك: وفى السماء رزقكم يعني المطر الذي هو سبب كل خير وهو من الرزق الذي قسمه الله وكتبه للعبد فى السماء. وقال مجاهد: وما توعدون يعني من خير او شر، وقيل وما توعدون الجنة، لانها في السماء الرابعة.
ثم قال تعالى { فورب السماء والأرض } قسما منه تعالى { إنه لحق } ومعناه إن ما وعدتكم به من الثواب والعقاب والجنة والنار لا بد من كونه { مثل ما تنطقون } أي مثل نطقكم الذي تنطقون به فكما لا تشكون في ما تنطقون، فكذلك لا تشكوا في حصول ما وعدتكم به. وقيل الفرق بين قوله { حق مثل ما إنكم تنطقون } وبين ما تنطقون مثل الفرق بين أحق منطقك وبين أحق إنك تنطق أي أحق إنك ممن ينطق، ولم يثبت له نطقاً. والأول قد أثبته إلا أنه قال: أحق هو أم باطل، ذكره الفراء. ومعنى الآية أن هذا القرآن وأمر محمد صلى الله عليه وآله وما توعدون به من أرزاقكم حق ككلامكم، كقول القائل: إنه لحق مثل ما أنت ها هنا أي كما أنت ها هنا. وقال الفراء: وإنما جمع بين (ما) و (إن) مع انه يكتفى باحدهما، كما يجمع بين اللائي والذين، وأحدهما يجزي عن الآخر قال الشاعر:

من النفر اللائي والذين إذا هم يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا

فجمع بين اللائي والذين، ولو أفرده بـ (ما) لكان المنطق في نفسه حقاً، ولم يرد ذلك، وإنما أراد أنه لحق كما حق أن الآدمي ناطق، ألا ترى ان قولك أحق منطقك معناه أحق هو أم كذب، وقولك أحق إنك تنطق معناه إن للانسان النطق لا لغيره، فادخلت (أن) ليفرق بين المعنيين. قال وهذا أعجب الوجهين إليّ