التفاسير

< >
عرض

قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ
٣١
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
٣٢
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ
٣٣
فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ
٣٤
أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ
٣٥
أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ
٣٦
أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُونَ
٣٧
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٣٨
أَمْ لَهُ ٱلْبَنَاتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ
٣٩
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ
٤٠
-الطور

التبيان الجامع لعلوم القرآن

لما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا فى النبي صلى الله عليه وآله أنه كاهن ومجنون، وانه شاعر نتربص به ريب المنون أي نتوقع فيه حوادث الدهر والهلاك، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله { قل } لهم يا محمد { تربصوا فإني معكم من المتربصين } فالتربص هو الانتظار بالشيء إنقلاب حال إلى خلافها. والمعنى إنكم إن تربصتم بي حوادث الدهر والهلاك، فاني معكم من المنتظرين لمثل ذلك، فتربص الكفار بالنبي صلى الله عليه وآله والمؤمنين قبيح، وتربص النبي والمؤمنين بالكفار وتوقعهم لهلاكهم حسن، وقوله { فتربصوا } وإن كان بصيغة الأمر فالمراد به التهديد.
وقوله { أم تأمرهم أحلامهم بهذا } على طريق الانكار عليهم ان هذا الذي يقولونه ويتربصون بك من الهلاك. أحلامهم أي عقولهم تأمرهم به، وتدعوهم اليه والاحلام جمع الحلم، وهو الامهال الذي يدعو إليه العقل والحكمة، فالله تعالى حليم كريم، لانه يمهل العصاة بما تدعو اليه الحكمة، ويقال: هذه أحلام قريش أي عقولهم. ثم قال تعالى ليس الأمر على ذلك { بل هم قوم طاغون } والطاغي هو الطالب للارتفاع بالظلم لمن كان من العباد، ومنه قوله
{ إنا لما طغا الماء } لانه طلب الارتفاع كطلب الظالم للعباد فى الشدة، فحسن على جهة الاستعارة.
وقوله { أم يقولون تقوله } معناه بل يقولون أفتراه واخترعه وافتعله، لان التقول لا يكون إلا كذباً، لانه دخله معنى تكلف القول من غير حقيقة معنى يرجع اليه، وكذلك كل من تكلف أمراً من غير اقتضاء العقل أن له فعله فهو باطل. ثم قال { بل } هؤلاء الكفار { لا يصدقون } بنبوتك ولا بأن القرآن انزل من عند الله. والآية ينبغي ان تكون خاصة فيمن علم الله انه لا يؤمن.
ثم قال على وجه التحدي لهم { فليأتوا بحديث مثله } يعني مثل القرآن وما يقاربه { إن كانوا صادقين } فى انه شاعر وكاهن ومجنون وتقوله، لانه لا يتعذر عليهم مثله. وقيل المثل الذي وقع التحدي به هو ما كان مثله فى أعلا طبقة البلاغة من الكلام الذي ليس بشعر. واعلا طبقات البلاغة كلام قد جمع خمسة أوجه: تعديل الحروف فى المخارج، وتعديل الحروف فى التجانس وتشاكل المقاطع مما تقتضيه المعاني وتهذيب البيان بالايجاز فى موضعه والاطناب فى موضعه، والاستعارة فى موضعها والحقيقة في موضعها. واجراء جميع ذلك فى الحكم العقلية بالترغيب فى ما ينبغي ان يرغب فيه. والترهيب مما ينبغي ان يرهب منه، والحجة التي يميز بها الحق من الباطل. والموعظة التي تليق للعمل بالحق.
وقوله { أم خلقوا من غير شيء } معناه أخلقوا من غير خالق { أم هم الخالقون } لنفوسهم فلا يأتمرون لامر الله ولا ينتهون عما نهاهم عنه. وقيل: معنى { أخلقوا من غير شيء } أخلقوا لغير شيء أي أخلقوا باطلا لا لغرض. وقيل: المعنى أخلقوا من غير أب ولا أم فلا يهلكون، كما أن السموات والارض خلقتا من غير شيء، فاذا هم أضعف من السماء الذي خلق لا من شيء، فاذا كان ما خلق لا من شيء يهلك فما كان دونه بذلك أولى. وقوله { أم خلقوا السماوات والأرض } واخترعوها فلذلك لا يقرون بالله أنه خالقهم. ثم قال تعالى { بل لا يوقنون } بان لهم إلهاً يستحق العبادة وحده ولا يقرون بانك نبي من جهة الله.
وقوله { أم عندهم خزائن ربك } معناه اعندهم خزائن نعمة ربك وخزائن الله مقدوراته، لأنه يقدر من كل جنس على ما لا نهاية له فشبه ذلك بالخزائن التي تجمع اشياء مختلفة. والمعنى كأنه قال: أعندهم خزائن رحمة ربك فقد أمنوا أن تجيء الأمور على خلاف ما يحبون { أم هم المسيطرون } على الناس فليس عليهم مسيطر ولا لهم ملزم ومقوم، فالمسيطر الملزم غيره امراً من الامور قهراً، وهو مأخوذ من السطر يقال: سيطر يسيطر سيطرة، وهو (فيعل) من السيطرة، ونظيره بيطر بيطرة. وقيل: المسيطر الملك القاهر. وقيل: هو الجبار المتسلط، ومنه قوله
{ { لست عليهم بمصيطر } يقولون: سيطر علي أي اتخذني خولا، وقال ابو عبيدة: المسيطرون الارباب، والمسيطر والمبيقر والمبيطر والمهيمن والكميت اسماء جاءت مصغرة لا نظير لها. وقرأ قتادة { بمسيطر } بفتح الطاء، بمعنى لست عليهم بمسلط. وقرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر والكسائي { المسيطرون } بالسين. الباقون بالصاد إلا ان حمزة يشم الصاد زاياً.
وقوله { أم لهم سلم يستمعون فيه } فالسلم مرتقى إلى العلو من مشيد الدرجة مرتقى إلى علو من بناء مصمت. ويقال: جعلت فلاناً سلما لحاجتي أي سبباً. وقال ابن مقبل:

لا يحرز المروء احجاء البلاد ولا تبنى له فى السموات السلاليم

فكأنه قيل أم يستمعون الوحي من السماء، فقد وثقوا بما هو عليه وردوا ما سواه { فليأت مستمعهم بسلطان مبين } أي بحجه يظهر صحة قولهم. والاستماع الاصغاء إلى الصوت، وإنما قيل لهم ذلك، لان كل من ادعى ما لم يعلم ببداهة العقول فعليه إقامة الحجة.
وقوله { أله البنات ولكم البنون } معناه ألكم البنون ولله البنات، فصاحب البنين أعلى كلمة من صاحب البنات، وهذا غاية التجهيل لهم والفضيحة عليهم.
وقيل: لو جاز اتخاذ الأولاد عليه لم يكن يختار على البنين البنات فدل بذلك على افراط جهلهم في ما وصفوا الله تعالى به من اتخاذ الملائكة بنات.
وقوله { أم تسألهم أجراً } أي ثواباً على اداء الرسالة اليهم بدعائك إياهم إلى الله { فهم من مغرم مثقلون } فالمغرم إلزام الغرم - فى المال - على طريق الابذال، والمغرم انفاق المال من غير إبذال. واصله المطالبة بالحاح فمنه الغريم، لانه يطالب بالدين بالحاح، ومنه
{ { إن عذابها كان غراماً } أي ملحاً دائماً. والمغرم لانه يلزم من جهة المطالبة بالحاح لا يمكن دفعه. والمثقل المحمول عليه ما يشق حمله لثقله.