ثلاث عشرة آية كوفى وشامي، وإثنتا عشرة آية بصري وإحدى عشرة آية فى ما عداه، عد الكوفى والشامي { الرحمن } ولم يعده الباقون، وعدوا { خلق الإنسان } إلا أهل المدينة فانهم عدوا { البيان } آخر الآية. وقرأ { الحب ذا العصف } بالنصب شامي { والريحان } خفض كوفى غير عاصم، وعدّ الكوفيون
{ الرحمن } آية مع أنه ليس بجملة، لأنه في تقدير الله الرحمن حتى تصح الفاصلة وهو خبر مبتدأ محذوف نحو قوله { سورة أنزلناها } أي هذه أنزلناها، ومعنى { الرحمن }
هو الذي وسعت رحمته كل شيء، فلذلك لا يجوز أن يوصف به إلا الله تعالى، فأما (راحم ورحيم) فيجوز ان يوصف به العباد.
وقوله { علم القرآن } فالتعليم تبين ما به يصير من لم يعلم عالماً. والاعلام إيجاد ما به يصير عالماً، وفى قوله { الرحمن علم القرآن } تذكير بالنعمة فى ما علم من الحكم بالقرآن التي يحتاج اليها الناس فى دينهم ليؤدوا ما يجب عليهم وينالوا الفضل بطاعة ربهم ويستوجبوا به الثواب وينالوا الرضوان.
وقوله { خلق الإنسان } معناه إنه الذي اخترع الانسان وأخرجه من العدم إلى الوجود، وقيل: المراد بالانسان - ها هنا - آدم عليه السلام. وقيل: محمد صلى الله عليه وآله. وقيل: جميع الناس وهو الظاهر وهو الأعم في الجميع. وقوله { علمه البيان } أى خلق فيه التمييز الذي بان به من سائر الحيوان. وقيل: معناه علمه الكلام الذى يبين به عن مراده ويتميز به عن سائر الحيوان، فالبيان هو الأدلة الموصلة إلى العلم. وقيل: البيان إظهار المعنى للنفس بما يتميز به عن غيره كتميز معنى رجل من معنى فرس، ومعنى قادر من معنى عاجز، ومعنى عام من معنى خاص، ومعنى شيء من معنى هذا بعينه، وفيه تنبيه على أنه تعالى خلق الانسان غير عالم، ثم علمه البيان، خلافاً لقول من يقول من الجهال: إن الانسان لم يزل عالماً بالاشياء، وإنما يحتاج فيه إلى تذكير، فكيف يكون عالماً من لم يخلق بعد لولا الغباوة وقلة التحصيل.
وقوله { والشمس والقمر بحسبان } أي يجريان بحسبان فاضمر يجريان وحذفه لدلالة الكلام عليه، فيكون إرتفاع الشمس بالفعل المقدر. وقال قوم:
إرتفعا بتقديرهما بحسبان أي بحساب، والمعنى علمه البيان أن الشمس والقمر بحسبان
وقيل: المعنى أن أمرهما يجري فى الادوار على مقدار من الحساب على ما وضعه حكيم عليم بتدبير صحيح، قد كان يمكن وضعهما على خلافه غير انه اختار ذلك لاستغناء العباد بها فى وجوه المنافع وما فى ذلك من المصالح. وقال ابن عباس وقتادة وابن زيد: بحسبان، ومنازل يجريان فيها ولا يعدوانها. وقيل: إن القمر يقطع بروج السماء فى ثمانية وعشرين يوماً، والشمس تقطع ذلك فى ثلثمائة وخمسمة وستين يوماً وشيء. وقوله { بحسبان } خبر الشمس والقمر على قول من رفعهما بالابتداء (وحسبان) مصدر حسبته أحسبه حسباناً نحو السكران والكفران. وقيل: هو جمع حساب كشهاب وشهبان.
وقوله { والنجم والشجر يسجدان } فالنجم من النبات ما طلع، يقال:
نجم ينجم إذا طلع، ونجم القرن والنبات إذا طلعا، وبه سمي نجم السماء، وهو الكوكب لطلوعه. والنجم - ها هنا - النبت الطالع من الارض، وهو النبات الذي ليس له ساق - فى قول ابن عباس وسعيد وسفيان - وقال مجاهد: هو نجم السماء، وبه قال قتادة، والأول أقوى لمصاحبة الشجر. والشجر عند أهل اللغة النبات الذي له ساق وورق وأغصان يبقى ساقه على دور الحول من الرمان واكثره مما له ثمار تجنى على ما دبرها صانعها من الاتيان بها فى أبانها.
وقوله { يسجدان } إخبار من الله تعالى بانهما يسجدان، وسجودهما هو ما فيهما من الآية الدالة على حدوثهما وعلى وجوب الخضوع لله تعالى والتذلل له لما خلق فيها من الاقوات المختلفة فى النبات للناس وغيرهم من الحيوان والاستمتاع بأصناف الثمار والفواكه والرياض اللذيذة، فلا شيء أدعى إلى الخضوع والعبادة لمن أنعم بهذه النعمة الجليلة مما فيه مثل الذي ذكرنا فى النجم والشجر. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: سجودهما ظلالهما الذي يلقيانه بكرة وعشياً، فكل جسم له ظل فهو يقتضي الخضوع بما فيه من دليل الحدوث الذي لا يقدر عليه إلا قادر لا يعجزه شيء.
وقوله { والسماء رفعها } أي رفع السماء رفعها فوق الأرض للاعتبار بها والتفكر فيها، وأنه لا يقدر على رفعها غير القادر لنفسه الذي لا يعجزه شيء ولا يماثله موجود.
وقوله { ووضع الميزان } فالميزان آلة التعديل فى النقصان والرجحان، والوزن يعدل فى ذلك، ولولا الميزان لتعذر الوصول إلى كثير من الحقوق، فلذلك نبه على النعمة فيه والهداية اليه.
وقوله { إلا تطغوا في الميزان } نهي كأنه قال أي لا تطغوا، لأن (أن)
تكون بمعنى أي ويجوز ان تكون علة، وتقديره ووضع الميزان لأن لا تطغوا، وإنما أعاد ذكر الميزان من غير أضمار لئلا يكون الثاني مضمناً بالأول، وليكون قائماً بنفسه في النهي عنه إذا قيل ألا تطغوا فى الميزان. وقيل: لأنه نزل في وقتين. والأول أحسن. وقيل: المراد بالميزان العدل لان المعادلة موازنة الاسباب، والطغيان الافراط في مجاوزة الحد في العدل. وقيل: لا تطغوا فيه لان ما لا يضبط في الوزن موضوع عنهم. وقال الزجاج: تقديره فعلت ذلك لئلا تطغوا. ويحتمل ان يكون نهياً مفرداً. ويجوز أن يكون بمعنى (أي) مفسرة
وقوله { وأقيموا الوزن بالقسط } أمر من الله تعالى أن يقيموا الوزن إذا أرادوا الاخذ أو الاعطاء { بالقسط } أي بالعدل { ولا تخسروا الميزان } بمعنى لا تنقصوه.
والخسران نقصان أصل المال، وهو ذهاب ما كان من رأس المال: خسر يخسر خسراً وخسراناً، وخسره تخسيراً، فهو خاسر ومخسر. قال الزجاج: قولهم:
أخسرت الميزان وخسرت، فعلى خسرت { لا تخسر } بفتح التاء، وقد قرأ به بعض المتقدمين شاذاً لا يؤخذ به.
وقوله { والأرض وضعها للأنام } ليستقروا عليها. وقال ابن عباس: الانام كل شيء فيه روح. وقال الحسن: الانام الانس والجن. وقال قتادة: الانام الخلق. ويجوز أن يكون الانام من ونم الذباب إذا صوت من نفسه، ويسمى كل ما يصوت من نفسه أناماً. وقلبت الواو من ونام همزة كقولهم: أناة من (وناة).
ثم بين وجه المنافع للخلق فوضع الارض { فيها فاكهة } وهي أنواع الثمار التي تؤخذ من الشجر فيها أنواع الملاذ وفنون الامتاع، فسبحان الذي خلقه لعباده وأجرى فيه ضروب الطعوم بلطفه، وكله يسقى بماء واحد في ارض واحدة من شجرة يابسة تنقلب إلى حال الغضاضة والنضرة، ثم تحمل الثمرة الكريمة، وكل ذلك بعين المعتبر وعلم المفكر.
وقوله { والنخل ذات الأكمام } اسم جنس يقع على القليل والكثير وواحده نخلة، وهو يذكر ويؤنث، والاكمام جمع (كم) وهو وعاء ثمر النخل، تكمم في وعائه إذا اشتمل عليه. وقيل: الأكمام ليف النخلة التي تكمم فيه - في قول الحسن وقتادة - وقال ابن زيد: الأكمام الطلع الذي فيه ثمر النخلة. وقال الزجاج: كم القميص من هذا، لانه يغطي اليد.
وقوله { والحب ذو العصف والريحان } قال ابن عباس وقتادة وابن زيد:
العصف التبن. لان الرياح تعصفه أي تطيره بشدة هبوبها ومنه الريح العاصف، قال علقمة بن عبدة:
تسفي مذانب قد مالت عصيفتها حدورها من أني الماء مطموم
وهو دقاق الزرع إذا يبس عصفته الريح. وقيل: العصف التبن. ويقال:
له العصيفة. والحب حب الحنطة والشعير ونحوهما، والريحان الرزق - في قول ابن عباس ومجاهد والضحاك - وقال الحسن وابن زيد: الريحان هو الذي يشم. وفي رواية اخرى عن ابن عباس والضحاك: إن الريحان الحب. والعرب تقول: خرجنا نطلب ريحان الله أى رزقه ويقال: سبحانك وريحانك أى رزقك، قال النمر بن تولب
سماء الاله وريحانه وجنته وسماء درد
وقرأ اهل الكوفة إلا عاصماً { والريحان } جراً على تقدير، وذو الريحان.
الباقون بالرفع عطفاً على (الحب) وقرأ ابن عامر وحده { والحب ذا العصف والريحان } بالنصب فيها كلها على تقدير، وخلق الحب ذا العصف وخلق الريحان الباقون بالرفع على تقدير فيها الحب ذو العصف وفيها الريحان.
وقوله { فبأى آلاء ربكما تكذبان } قال ابن عباس والحسن وقتادة: معناه فبأى نعمة من نعمه يا معشر الجن والانس تكذبان؟! وريحان أصله ريحان، فخفف. وتلخيصه ريوحان على وزن فيعلان، فلما التقت الواو والياء والثاني ساكن قلبوا الواو ياء وأدغموا ثم خففوا كراهية التشديد كما قالوا: هين لين.