التفاسير

< >
عرض

قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
١
ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
٢
وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٣
فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٤
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ
٥
-المجادلة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ المفضل عن عاصم { ما هن أمهاتهم } على الرفع على لغة بني تميم. الباقون بنصب { أمهاتهم } على لغة أهل الحجاز، وهي لغة القرآن، كقوله { { ما هذا بشراً } وقرأ عاصم { يظاهرون } بضم الياء بألف. وقرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو { يظهرون } بغير الف مشددة الظاء والهاء. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي { يظاهرون } بتشديد الظاء والف، وفتح الياء. وقال ابو علي النحوي: ظاهر من امرأته وظهر مثل ضاعف وضعف وتدخل التاء على كل واحد منهما، فيصير تظاهر وتظهر، ويدخل حرف المضارعة، فيصير تتظاهر، ويتظهر. ثم يدغم التاء في الظاء لمقاربتهما، فيصير يظاهرون ويظهرون - بفتح الياء - التي هي للمضارعة، لانها للمطاوعة، كما تفتحها في (يتدحرج) الذي هو مطاوع (دحرجته، فتدحرج) واختار عاصم أن المظاهرة من المضارعة، لان المفاعلة لا يكون إلا من نفسين. والظهار يكون بين الرجل وامرأته. ومن قرأ { يظاهرون } فأصله يتظاهرون فأدغم التاء في الظاء.
والظهار قول الرجل لامرأته: انت عليّ كظهر أمي، وكان أهل الجاهلية إذا قال الرجل منهم هذا لامرأته بانت منه وطلقت. وفى الشرع لا تبين المرأة إلا انه لا يجوز له وطؤها إلا بعد ان يكفر. وعندنا ان شروط الظهار هي شروط الطلاق سواء من كون المرأة طاهراً طهراً لم يقربها فيه بجماع، ويحضره شاهدين ويقصد التحريم فان اختل شيء من ذلك لم يقع به ظهار. ويقال فيه ظاهر فلان من امرأته ظهاراً ومظاهرة وإظهاراً، فلان ظاهر وتظاهر تظاهراً إلا انه ادغم واظهر إظهاراً. وأصله تظهر تظهراً إلا انه ادغمت التاء في الظاء.
وقيل: إن هذه الآية نزلت في خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس ابن الصامت - في قول قتادة - وكان مجادلتها إياه مراجعتها في أمر زوجها. وقد كان ظاهر منها، وهي تقول: كبرت سني ودق عظمي، وان اوساً تزوجني وانا شابة، فلما علت سني يريد أن يطلقني. ورسول الله صلى الله عليه وآله يقول بنت منه - على ما رواه ابو العالية - وفي رواية غيره انه قال لها: ليس عندي في هذا شيء، فنزلت الآية. وقال ابن عباس: نزلت الآية في أوس بن الصامت. وكانت تحته بنت عم له، فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي، فهو اول من ظاهر في الاسلام. وقيل كان يقال للمرأة خولة بنت خويلد. وكان الرجل في الجاهلية إذا قال لامرأته: انت عليّ كظهر أمي حرمت عليه، فأنزل الله تعالى في قصة الظهار آيات. ولا خلاف أن الحكم عام في جميع من يظاهر، وإن نزلت الآية على سبب خاص.
فقال الله تعالى لنبيه { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } فالجدال والمجادلة هي المخاصمة. وقد يقال: للمراجعة والمقابلة للمعنى بما يخالفه مجادلة. واصل الجدال الفتل. ومن قابل المعنى بخلافه طلباً للفائدة فليس بمجادل. فمجادلة المرأة لرسول الله كان مراجعتها إياه في أمر زوجها، وذكرها أن كبرت سني ودق عظمي، والنبي صلى الله عليه وآله يقول بنت منه - على ما رواه ابو العالية - لأنه لم يكن نزل عليه في ذلك وحي ولا حكم.
وقوله { وتشتكى إلى الله } أي تظهر ما بها من المكروه، تقول: اللهم إنك تعلم حالي فارحمني، فالاشتكاء إظهار ما بالانسان من المكروه. والشكاية إظهار ما يصنعه به غيره من المكروه.
وقوله { والله يسمع تحاوركما } أي مراجعة بعضكما لبعض. والتحاور التراجع وهو المحاورة، تقول: تحاورا تحاوراً وحاور محاورة أي راجعه في الكلام، قال عنترة:

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الكلام مكلمي

و { إن الله سميع بصير } أي على صفة يصح معها ان يسمع المسموعات إذا وجدت، ويبصر المبصرات إذا وجدت.
ثم قال { الذين يظاهرون منكم من نسائهم } أي الذين يقولون لنسائهم: أنت عليّ كظهر أمي، ومعناه إن ظهرك عليّ حرام كظهر أمي، فقال الله تعالى { ما هن أمهاتهم } أي ليست أزواجهم امهاتهم على الحقيقة { إن أمهاتهم } أي وليست امهاتهم في الحقيقة { إلا اللائي ولدنهم } من الأم وجداته. ثم اخبر { إنهم ليقولون } أي ان القائل لهذا يقول قولا { منكراً من القول } قبيحاً { وزوراً } أي كذباً، لأنه اذا جعل ظهرها كظهر أمه وليست كذلك كان كاذباً في قوله.
ثم قال تعالى { وإن الله لعفو غفور } أي رحيم بهم منعم عليهم متجاوز عن ذنبهم. وفى ذلك دلالة على ان الله رحمها وغيرها من النساء لرغبتها فى زوجها بالتوسعة من جهة الكفارة التي تحل بها.
ثم بين تعالى ما يلزمه من الحكم، فقال { والذين يظاهرون من نسائهم } يعني الذين يقولون هذا القول الذي حكيناه { ثم يعودون لما قالوا } واختلفوا فى معنى العود، فقال قتادة العود هو العزم على وطئها. وقال قوم: العود الامساك عزم او لم يعزم وقال الشافعي: هو أن يمسكها بالعقد، ولا يتبع الظهار بطلاق. وحكى الطبري عن قوم انهم قالوا: فيه تقديم وتأخير وتقديره: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة من قبل ان يتماسا فمن لم يجد فصيام شهرين فمن لم يستطع فاطعام ستين مسكينا ثم يعودون لما قالوا. وقال قوم: معناه ثم يعودون لنقض ما قالوا وإرتفاع حكمه. وقال قوم: لا تجب عليه الكفارة حتى يعاود القول ثانية. وهو خلاف اكثر اهل العلم.
والذي هو مذهبنا أن العود المراد به إرادة الوطىء او نقض القول الذي قاله، فانه لا يجوز له الوطىء إلا بعد الكفارة ولا يبطل حكم القول الأول إلا بعد ان يكفرّ.
وقال الفراء: يحتمل ان يكون المراد ثم يعودون إلى ما قالوا، وفيما قالوا، وفي نقض ما قالوا، أي يرجعون عما قالوا، ويجوز فى العربية أن تقول: إن عاد لما فعل، تريد ان فعله مرة أخرى، ويجوز إن عاد لما فعل أي نقض ما فعل، كما تقول: حلف ان يضربك بمعنى حلف ألا يضربك، وحلف ليضربنك.
وقوله { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } بيان لكيفية الكفارة، فان أول ما يلزمه من الكفارة عتق رقبة فالتحرير هو ان يجعل الرقبة المملوكة حرة بالعتق بأن يقول المالك انه حر. والرقبة ينبغي ان تكون مؤمنة سواء كانت ذكراً او انثى صغيرة او كبيرة إذا كانت صحيحة الاعضاء. فان الاجماع واقع على انه يقع الاجزاء بها، وقال الحسن وكثير من الفقهاء: إن كانت كافرة أجزأت. وفيه خلاف وتفاصيل. ذكرناه فى كتب الفقه. وتحرير الرقبة واجب قبل المجامعة لظاهر قوله { من قبل أن يتماسا } أي من قبل ان يجامعها فيتماسا. وهو قول ابن عباس، فكان الحسن لا يرى بأساً ان يغشى المظاهر دون الفرج. وفى رواية اخرى عنه أنه يكره للمظاهر أن يقبل. والذي يقتضيه الظاهر ألا يقربها بجماع على حال ولا بمماسة شهوة وقوله { ذلكم توعظون به } ان تظاهروا ثم قال { والله بما تعملون خبير } أي عالم بما تفعلونه من خير وشر، فيجازيكم بحسبه.
ثم قال { فمن لم يجد } يعني الرقبة وعجز عنها { فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } والتتابع عند أكثر العلماء ان يوالي بين أيام الشهرين الهلاليين او يصوم ستين يوماً. وعندنا انه إذا صام شهراً ومن الآخر ولو يوماً، فقد تابع، فان فرق فيما بعد جاز. وعند قوم: ان يصوم شهراً ونصف شهر لا يفطر فيما بينهما فان افطر لا لعذر استأنف. وان افطر لعذر من مرض اختلفوا، فمنهم من قال يستأنف من عذر وغير عذر. وبه قال إبراهيم النخعي ورواه جابر عن ابي جعفر عليه السلام وقال قوم: يبني، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وعطاء والشعبي. واجمعوا على ان المرأة إذا افطرت للحيض فى الشهرين المتتابعين فى كفارة قتل الخطأ او فطر يوم انها تبني فقاسوا عليه الظهار. وروى اصحابنا انه اذا صام شهراً ومن الثاني بعضه ولو يوماً ثم افطر لغير عذر، فقد اخطأ إلا انه يبني على ما قدمناه. وإن افطر قبل ذلك استأنف. ومتى بدأ بالصوم وصام بعضه ثم وجد العتق لا يلزمه العتق وإن رجع كان افضل. وقال قوم: يلزمه الرجوع الى العتق.
ومتى جامع فى ليالي الصوم وجب عليه الاستئناف وبطل حكم التتابع، لانه خلاف الظاهر. ومتى جامع قبل الكفارة لزمته كفارة ثانية عند اصحابنا، وكلما وطأ لزمته كفارة بعدد الوطىء.
وقوله { فمن لم يستطع } يعني من لم يقدر على الصوم { فإطعام ستين مسكيناً } يعني - عندنا - لكل مسكين نصف صاع، فان لم يقدر أعطاه مداً. و
"روي عن النبي صلى الله عليه وآله انه اعطى المظاهر نصف وسق ثلاثين صاعاً. وقال أطعم ستين مسكيناً وراجعها" وذلك انه كان فقيراً عاجزاً عن جميع الكفارات. وقال الحسن: اعانه رسول الله صلى الله عليه وآله بخمسة عشر صاعاً. والعدد مراعى، فان لم يجد العدد كرر على الموجودين تمام الستين.
وإن جامعها قبل ان يتم الاطعام، فظاهر المذهب يقتضي انه يلزمه كفارة اخرى، لأنه وطأ قبل الكفارة. وقال قوم: لا يلزمه. وقال آخرون: يستأنف الكفارة
وقوله { ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله } معناه إنا شرعنا لكم ما ذكرناه فى حكم الظهار لما علمناه من مصلحتكم لتؤمنوا بالله ورسوله، فتصدقوهما وتقروا بتوحيد الله، وبنبوة نبيه.
ثم قال { وتلك حدود الله } يعني ما ذكرناه من حكم الظهار.
ثم قال { وللكافرين } أي للجاحدين لصحة ما قلناه { عذاب أليم } ومتى نوى بلفظ الظهار الطلاق لم يقع به طلاق. وفيه خلاف بين الفقهاء، والاطعام لا يجوز إلا للمسلمين دون اهل الذمة. وفيه خلاف. ومسائل الظهار وفروعها ذكرناها فى كتب الفقه.
ثم قال { إن الذين يحادون الله ورسوله } والمحادة المخالفة فى الحدود أي من خالف الله ورسوله فيما ذكراه من الحدود { كبتوا } أي اخذوا - فى قول قتادة - وقال غيره: اذلوا. وقال الفراء: معناه اغيظوا واحزنوا يوم الخندق { كما كبت الذين من قبلهم } يعني من قاتل الانبياء من قبلهم.
ثم قال تعالى { وقد أنزلنا آيات بينات } اي حجج واضحات من القرآن وما فيه من الادلة. ثم قال { وللكافرين } أي للجاحدين لما انزلناه من القرآن والآيات { عذاب مهين } أي يهينهم ويخزيهم.