التفاسير

< >
عرض

مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
١٦٠
-الأنعام

التبيان الجامع لعلوم القرآن

يجوز في قوله { فله عشر أمثالها } ثلاثة أوجه: الجر بالاضافة، وعليه جميع القراء الا يعقوب. ورفع { أمثالها } مع التنوين على الصفة، وبه قرأ الحسن ويعقوب. ونصبه على التمييز، كما تقول عندي خمسة أترابا ذكر ذلك الزجاج، والفراء.
ومعنى القراءة الاولى، فله عشر حسنات أمثالها، ويجوز في العربية فله عشر مثلها، فيكون المثل في لفظ الواحد وفى معنى الجمع، كما قال
{ إنكم إذا مثلهم } }. ومن قال: أمثالها فهو كقوله { لا يكونوا أمثالكم } } وانما جاز في (مثل) التوحيد في معنى الجمع، لانه على قدر ما يشبه به، تقول: مررت بقوم مثلكم وبقوم أمثالكم. وقال الرماني: كلما لم يتميز بالصورة فان جمعه يدل على الاختلاف، كقولك: رمال ومياه، فأما (رجال) فلا يدل على الاختلاف، لانه يتميز بالصورة، ويجوز ان يكون (المثل) في موضع الجمع ولا يجوز مثل ذلك في (العدل) لان (المثل) لا يضاف الى الجماعة الا على معنى انه مثل لكل واحد منهم. وليس كذلك (العدل) لانه يكون لجماعتهم دون كل واحد منهم.
وقال اكثر اهل العدل ان الواحد من العشرة مستحق وتسعة تفضل. وقال بعضهم: المعنى فله من الثواب ثواب عشر حسنات أمثالها، وهذا لا يجوز، لانه يقبح ان يعطي غير العامل مثل ثواب العامل كما يقبح ان يعطي الاطفال مثل ثواب الانبياء ومثل اجلالهم واكرامهم وان يرفع منزلتهم عليهم.
وانما لم يتوعد على السيئة الا بمثلها، لان الزائد على ذلك ظلم. والله يتعالى عن ذلك، وزيادة الثواب على الجزاء تفضل واحسان فجاز ان يزيد عليه. قال الرماني: ولا يجوز على قياس عشرة أمثالها عشر صالحات بالاضافة لان المعنى ظاهر في ان المراد عشر حسنات امثالها، وقال غيره لان الصالحات لا تعد، لانها اسماء مشتقة. وانما تعد الاسماء. و (المثل) اسم فلذلك جاز العدد به، وقال الرماني: دخول الهاء في قوله (الحسنة) يدل على ان تلك الحسنة ما هو مباح لا يستحق عليه المدح والثواب. ولو قيل: دخول الالف واللام فيها يدل على ان الحسنة هي المأمور بها، ودخلا للعهد، والله لا يأمر بالمباح، لكان اقوى مما قاله، ويجوز أن يكون التفضل مثل الثواب في العدد والكثرة، ويتميز منه الثواب بمقارنة التعظيم والتبجيل اللذين لولاهما لما حسن التكليف. وانما قلنا: يجوز ذلك لان وجه حسن ذلك: الاحسان والتفضل، وذلك حاصل في كل قدر زائد. وفي الناس من منع من ان يساوي التفضل الثواب في باب الكثرة. والصحيح ما قلناه اولا.
فان قيل: كيف تجمعون بين قوله { فله عشر أمثالها } وبين قوله
{ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة } وقوله { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة } ولان المجازاة بدخول الجنة مثابا فيها على وجه التأبيد، لا نهاية له، فكيف يكون ذلك عشر أمثالها، وهل هذا الا ظاهر التناقض؟!
قلنا: الجواب عن ذلك ما ذكره الزجاج وغيره: ان المعنى في ذلك ان جزاء الله على الحسنات على التضعيف للمثل الواحد الذي هو النهاية في التقيد في النفوس، ويضاعف الله عن ذلك بما بين عشرة اضعاف الى سبعمائة ضعف الى أضعاف كثيرة، ففائدة ذلك انه لا ينقص من الحسنة عن عشر أمثالها، وفيما زاد على ذلك يزيد من يشاء من فضله واحسانه.
وقال قوم: المعنى من جاء بالحسنة فله عشر أمثال المستحق عليها، والمستحق مقداره لا يعلمه الا الله وليس يريد بذلك عشر أمثالها في العدد، كما يقول القائل للعامل الذي يعمل معه: لك من الاجر مثل ما عملت اي مثل ما تستحقه بعملك.
وقال آخرون: المعنى في ذلك ان الحسنة لها مقدار من الثواب معلوم لله تعالى فأخبر الله تعالى انه لا يقتصر بعباده على ذلك بل يضاعف لهم الثواب حتى تبلغ ذلك ما أراد وعلم أنه أصلح لهم، ولم يرد العشرة بعينها لكن اراد الاضعاف كما يقول القائل: لئن اسديت اليَّ معروفا لأكافينَّك بعشرة أمثاله، وعشرة اضعافه. وفي الوعيد لئن كلمتني واحدة لاكلمنك عشرة، وليس يريدون بذلك العدد المعين لا اكثر منها، وانما يريدون ما ذكرناه.
وقال قوم: عني بهذه الآية الاعراب، واما المهاجرون فحسناتهم سبع مئة، ذهب اليه ابو سعيد الخدري، وعبد الله بن عمر.
وقال قوم: معنى { عشر أمثالها } لانه كان يؤخذ منهم العشر في الزكاة، وكانوا يصومون في كل شهر ثلاثة ايام والباقي لهم.
وقال قوم { من جاء بالحسنة } يعني الايمان، فله يعني للايمان عشر أمثالها، وهو ما ذكره في قوله
{ إن المسلمين والمسلمات.. } الى آخر الآية. وهذان الوجهان قريبان، والمعتمد ما قدمناه من الوجوه.
وقال اكثر المفسرين: ان السيئة المذكورة في الآية هي الشرك، والحسنة المذكورة فيها هي التوحيد واظهار الشهادتين.
فان قيل كيف يجوز الزيادة في نعم المثابين مع ان الثواب قد استغرق جميع مناهم وما يحتملونه؟
قلنا عنه جوابان: احدهما - انه ليس للمنية نهاية مما يحتمله من اللذات. والثاني - ان يزاد في البنية والقوة مثل أن يزاد في قوة البصر حتى يرى الجزء الذي لا يتجزَّء وان لم يزد في اخفاء الانسان.