التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٢٧
-الأنعام

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ حمزة ويعقوب وحفص { ولا نكذب.. ونكون } بالنصب فيهما، وافقهم ابن عامر في { ونكون } الباقون بالرفع فيهما، فمن قرأ بالرفع أحتملت قراءته أمرين:
أحدهما - ان يكون معطوفا على نرد، فيكون قوله: { نرد ولا نكذب.. ونكون } داخلا في التمني ويكون قد تمني الرد وألا يكذب وأن يكون من المؤمنين، وهو اختيار البلخي والجبائي والزجاج.
والثاني - أن يكون مقطوعا عن الاول، ويكون تقديره يا ليتنا نرد ولا نكذب كما يقول القائل: دعني ولا أعود، أي فأني ممن لا يعود، فانما يسألك الترك، وقد أوجب على نفسه ألا يعود ترك أو لم يترك. ولم يقصد أن يسأل أن يجمع له الترك وأن لا يعود. وهذا الوجه الذي اختاره أبو عمرو في قراءة جميع ذلك بالرفع، فالاول الذي هو الرد داخل في التمني وما بعده على نحو دعني، ولا أعود، فيكونون قد أخبروا على النَّيات أن لا يكذبوا ويكونوا من المؤمنين.
واستدل أبو عمرو على خروجه من المتمني بقوله { وإِنهم لكاذبون } فقال ذلك يدل على أنهم أخبروا بذلك عن أنفسهم، ولم يتمنوا، لان التمنى لا يقع فيه الكذب وانما يقع في الخبر دون التمني.
ومن نصب { نكذب.. ونكون } أدخلهما في التمني، لان التمني غير موجب، فهو كالاستفهام والامر والنهي والعرض، في إِنتصاب ما بعد ذلك كله من الافعال اذا دخلت عليها الفاء أو الواو على تقدير ذكر المصدر من الفعل الاول، كأنه قال: يا ليتنا يكون لنا رد، وانتفاء للتكذيب وكون من المؤمنين.
ومن نصب "نكون" فحسب، ورفع { نرد ولا نكذب } يحتمل أيضاً وجهين:
احدهما - أن يكون داخلا في التمني، فيكون في المعنى كالنصب.
والثاني - انه يخبر على النيات أن لا يكذب رد أو لم يرد.
ومن نصب { ولا نكذب.. ونكون } جعلهما جميعا داخلين في التمني كما أن من رفع وعطفه على التمني كان كذلك. فان قيل: كيف يجوز أن يتمنوا الرد الى الدنيا وقد علموا عند ذلك انهم لا يردون؟
قيل عن ذلك أجوبة:
احدها - قال البلخي: إِنا لا نعلم أن أهل الآخرة يعرفون جميع أحكام الآخرة، وانما نقول: انهم يعرفون الله بصفاته معرفة لا يتخالجهم فيها الشك لما يشاهدونه من الآيات والعلامات الملجئة لهم الى المعارف. وأما التوجع والتأوه التمني للخلاص والدعاء بالفرج يجوز أن يقع منهم وأن تدعوهم أنفسهم اليه. وقال أبو علي الجبائي والزجاج: يجوز أن يقع منهم التمني للرد، ولان يكونوا من المؤمنين، ولا مانع منه. وقال آخرون: التمني قد يجوز لما يعلم انه لا يكون ألا ترى أن المتمني يتمنى أن لا يكون فعل ما قد فعله ومضى وقته، وهذا لا حيلة فيه، فعلى هذا قوله في الآية الثانية { وإنهم لكاذبون } يكون حكاية حال منهم في دار الدنيا، كما قال:
{ وكلبهم باسط ذراعيه } وكما قال { وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة } وانما هو حكاية للحالة الآتية.
وقوله { ولو ترى إِذ وقفوا على النار } أمال فى الموضعين أبو عمرو وغيره وهي حسنة في أمثال ذلك، لان الراء بعده الالف مكسورة وهو حرف كأنه مكرر في اللسان فصارت الكسرة فيه كالكسرتين، فحسن لذلك الامالة. وقوله { إِذ وقفوا } يحتمل ثلاثة أوجه:
احدها - أن يكون عاينوها ووردوها قبل ن يدخلوها. ويجوز أن يكونوا أقيموا عليها نفسها.
والثاني - أن يكونوا عليها وهي تحتهم.
وثالثها - أن يكون معناه دخلوها فعرفوا مقدار عذابها كما يقول القائل: قد وقفت على ما عند فلان، أي فهمته وتبينته. قال الكسائي: يقال: وقفت الدابة وغيرها اذا حبستها - بغير ألف وهي لغة القرآن، وهو الافصح، وكذلك وقفت الارض اذا جعلتها صدقة. وقال أبو عمرو ما سمعت احداً من العرب يقول: أوقفت الشىء بالالف الا أني لو رأيت رجلا بمكان، فقيل له ما أوقفك ها هنا لرأيته حسناً.
وأستدل أبو علي بهذه الآية على ان القدرة قبل الفعل خلافاً للمجبرة بأن قال تمنوا الرد الى دار الدنيا الى مثل الحالة التي كانوا عليها، ولا يجوز من عاقل أن يتمنى أن يرد الى الدنيا ويخلق فيه القدرة الموجبة للكفر، لان ذلك لا يخلصه من العذاب بل يؤديه الى حالته التي كان عليها. وهذا ضعيف، لان لقائل أن يقول: إِنهم تمنوا الرد ورفع التكذيب وحصول الايمان بأن تحصل لهم قدرة الايمان، ولا تحصل لهم قدرة التكذيب، وليس في الآية أنهم سألوا الرد الى الحالة التي كانوا عليها، فلا متعلق في ذلك. واستدل ايضاً على أنه اذا كان المعلوم من حال الكافر أنه يؤمن وجب تبقيته بأن قال: أخبر الله أنه انما لم يردهم لانهم { لو ردوا لعادوا لما نهو عنه } وظاهر ذلك يقتضى أنه لو علم أنه لو ردهم لآمنوا، لوجب أن يردهم، واذا وجب أن يردهم اذا علم أنهم يؤمنون بأن يجب تبقيتهم اذا علم أنهم يؤمنون أولى. وهذا أيضاً ضعيف. لان الظاهر أفاد أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وليس فيه أنهم لو ردوا لآمنوا أو ما حكمهم بل هو موقوف على الدلالة، لانه دليل الخطاب على أن غاية ما فيه أنه يفيد أنه لو علم من حالهم أنه متى ردهم آمنوا يردهم، فمن أين أن ذلك واجب عليه؟! وهل هذا الا كقوله { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } في أنه لا خلاف بين أهل العدل أنه كان يجوز له أن يعذب وان لم يبعث رسولا بأن لا تقتضي المصلحة بعثته ويقتصر بهم على التكليف العقلي، فانهم متى عصوا كان له أن يعذبهم فلا شبهة في الآية.