التفاسير

< >
عرض

وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ
٣٨
-الأنعام

التبيان الجامع لعلوم القرآن

الوقف عند قوله { أمم أمثالكم } وقف تام.
ابتدأ الله تعالى بهذه الآية فأخبر بشأن سائر الخلق. وبازاحة علة عباده المكلفين في البيان ليعجب عباده في الآية التي بينها من الكفار وذهابهم عن الله تعالى فقال: { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } فجمع جميع الخلق بهذين اللفظين، لان جميع الحيوان لا يخلو من أن يكون مما يطير بجناحيه أو يدب { إلا أمم أمثالكم } أي هم اجناس واصناف كل صنف يشتمل على العدد الكثير والانواع المختلفة وان الله خالقها ورازقها، وانه يعدل عليها فيما يفعله، كما خلقكم ورزقكم وعدل عليكم، وان جميعها دالة وشاهدة على مدبرها وخالقها وانتم بعد ذلك تموتون والى ربكم تحشرون. فبين بهذه العبارة أنه لا ينبغي لهم ان يتعدوا في ظلم شىء منها، فان الله خالقها وهو الناهي عن ظلمها والمنتصف لها.
وفي قوله: { يطير بجناحيه } أقوال: احدها - ان قوله بجناحيه تأكيد كما يقولون: رأيت بعيني، وسمعت باذني، وربما قالوا: رأت عيني وسمعت اذني، كل ذلك تأكيد. وقال الفراء: معنى ذلك انه اراد ما يطير بجناحيه دون ما يطير بغير جناحين، لانهم يقولون قد مر الفرس يطير طيرا وسارت السفينة تطير تطيرا، فلو لم يقل { بجناحيه } لم يعلم انه قصد الى جنس ما يطير بجناحيه دون سائر ما يطير بغير جناحين. وقال قوم: انما قال { بجناحيه } لان السمك عند اهل الطبع طائر في الماء، ولا أجنحة لها، وانما خرج السمك عن الطائر، لانه من دواب البحر، وانما أراد ما فى الألارض وما في الجو، ولا حيوان موجود غيرهما. وقال قوم: انما قال ذلك ليدل على الفرق بين طيران الطيور بأجنحتها وبين الطيران بالاسراع تقول: طرت في جناحين، اذا أسرعت، قال الشاعر:

فلو أنها تجري على الارض أدركت ولكنها تهفوا بتمثال طائر

وانشد سيبويه:

فطرت بمنصلي في يعملات دوام الايد يحبطن السريحا

وقال المغربي: أراد ان يفرق بين الطائر الذي هو الفائز الفالج في القسم، وقال مزاحم العقيلي:

وطير بمخراق أشم كأنه سليل جيادلم تنله الزعانف

أي فوزي واغنمي. وقوله: { ما فرطنا في الكتاب من شيء } قيل { ما فرطنا } معناه ما تركنا. وقيل: ما قصرنا. وفي الكتاب قولان:
احدهما - انه أراد الكتاب المحفوظ عنده من أجال الحيوان وأرزاقه وآثاره ليعلم ابن آدم ان عمله اولى بالاحصاء والاستقصاء، ذكره الحسن.
الثاني - ما فرطنا في القرآن من شىء يحتاج اليه في أمور الدين والدنيا الا وقد بيناه اما مجملا أو مفصلا، فما هو صريح يفيد لفظا، وما هو مجمل بيَّنه على لسان نبيه وأمر باتباعه في قوله
{ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ودل بالقرآن على صدق نبوته ووجوب أتباعه، فاذاً لا يبقى أمر من امور الدين والدنيا الا وهو في القرآن - وهذا الوجه اختاره الجبائي - وقال البلخي: { ما فرطنا في الكتاب من شيء } أي لم ندع الاحتجاج بما يوضح الحق ويدعو الى الطاعة والمعرفة ويزجر عن الجهل والمعصية، وتصريف الامثال وذكر أحوال الملائكة وبني آدم وسائر الخلق من أصناف الحيوان. وكل جنس من الحيوان أمة، لان الامة الجماعة ويقال للصبيان: أمة وان لم يجب عليهم التكليف.
وقوله تعالى: { ثم إلى ربهم يحشرون } معناه يحشرون الى الله بعد موتهم يوم القيامة كما يحشر العباد، فيعوض الله تعالى ما يستحق العوض وينتصف لبعضها من بعض، فاذا عوضهما، قال قوم: انها تصير ترابا فحينئذ يتمنى الكافر فيقول
{ يا ليتني كنت ترابا } وقال قوم: يديم الله أعواضها ويخلقها على أحسن ما يكون من الصور فيسر بها المثابون ويكون ذلك من جملة ما ينعمون به، ذكره البلخي. وقال قوم: { يحشرون } معناه يموتون ويفنون وهذا بعيد، لان الحشر في اللغة هو بعث من مكان الى غيره، وها هنا لا معنى للحشر الذي هو الفناء وانما معناه انهم يصيرون الى ربهم ويبعثون اليه.
واستدل قوم من التناسخية بهذه الآية على ان البهائم والطيور مكلفة، لانه قال { أمم أمثالكم } وهذا باطل، لانا قد بينا من أي وجه قال: انها { أمم أمثالكم } ولو وجب حملها على العموم لوجب ان تكون أمثالنا في كونها ناسا وفي مثل صورنا واخلاقنا، فمتى قالوا لم يقل امثالنا في كل شىء، قلنا: وكذلك الامتحان والتكليف، على انهم مقرون بان الاطفال غير مكلفين ولا ممتحنين، فما يحملون به أمتحان الصبيان بعينه نحمل بمثله امتحان البهائم، وكيف يصح تكليف البهائم والطيور وهي غير عاقلة. والتكليف لا يصح الا لعاقل، على ان الصبيان أعقل من البهائم ومع هذا فليسوا مكلفين، فكيف يصح تكليف البهائم؟! واما قوله
{ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } فانه مخصوص بالمكلفين العقلاء من البشر والجن، والملائكة بدلالة أن الاطفال أمم وليس فيها نذيره واستدل ابو القاسم البلخي بهذه الآية على ان العوض دائم بان قال: بيَّن الله تعالى انه يحشر الحيوان كلها ويعوضها، فلو كان العوض منقطعا لكان اذا أماتها استحقت اعواضا أخر على الموت وذلك يتسلسل، فدل على انه دائم وهذا ليس بشىء، لانه يجوز ان يميت الله الحيوان على وجه لا يدخل عليهم الالم، فلا يستحقون عوضا ثانيا، فالاولى ان يقول: ان دام دام تفضلا منه تعالى.
وقوله { ولا طائر } فانه جرَّ، عطف على دابة وتقديره ولا من طائر، وكان يجوز ان يقرأ بالرفع حملا على المعنى، كما تقول: وما جاءني من رجل ولا امرأة، وتقديره ما جاءني رجل ولا امرأة ومثله قوله
{ ولا أصغر من ذلك ولا أكبر } في موضع بالنصب وفى موضع آخر بالرفع على ما قلناه.