التفاسير

< >
عرض

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
٨٤
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٨٥
وَإِسْمَاعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَالَمِينَ
٨٦
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَٱجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٨٧
ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٨٨
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـٰؤُلاۤءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ
٨٩
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ
٩٠
-الأنعام

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ حمزة والكسائي وخلف { اليسع } بتشديد اللام، وفتحها وسكون الياء ها هنا، وفي (ص). الباقون بسكون اللام وفتح الياء. قال الزجاج التشديد والتخفيف لغتان. وقال ابو علي الالف واللام ليستا للتعريف بل هما زائدتان وكان الكسائي يستصوب القراءة بلامين ويخطىء من قرأ بغيرهما كأن الاسم عنده { ليسع } ثم يدخل الالف واللام. قال ولو كانت (يسع) لم يجز أن يدخل الالف واللام، كما لا يدخل في (يزيد) و { يحيى }. قال الاصمعي فقلت له، فـ (اليرصع) من الحجارة و (اليعمل) من الابل و (اليحمد) حي من اليمن، فكأنما ألقمته حجرا، وبعدها فانا قد سمعناهم يسمعون بـ (يسع) ولم نرهم يسمعون بـ (ليسع). وقال الفراء: القراءة بالتشديد اشبه بالاسماء العجمية التخفيف. قال لانهم لا يكادون يدخلون الالف واللام في ما لا يجرّ مثل (يزيد، ويعمر) الا في الشعر أنشدني بعضهم:

وجدنا الوليد بن اليزيد مباركاً شديدا بأعباء الخلافة كاهله

قال وانما أدخلوا الالف واللام في يزيد لدخولهما في الوليد، فاذا فعلوا ذلك فقد أمسَّوا الحرف مدحا.
قوله { ووهبنا له إسحاق ويعقوب } الهاء في (له) كناية عن ابراهيم (ع) { كلا هدينا } نصب كلا بـ (هدينا) و { نوحا هدينا من قبل } معناه هديناه قبل ابراهيم. وقوله { ومن ذريته داود وسليمان } تقديره وهدينا داود وسليمان نسقا على نوح. ويحتمل أن يكون قوله { ومن ذريته } الهاء راجعة الى نوح لان الانبياء المذكورين كلهم من ذريته. قال الزجاج ويجوز أن يكون من ذريته ابراهيم لان ذكرهما جميعا قد جرى، وأسماء الانبياء التي جاءت بعد قوله { ونوحا هدينا من قبل } نسق على (نوح) نصب كلها، ولو رفعت على الابتداء كان صوابا. قال أبو علي الجبائي: الهاء لا يجوز أن تكون كناية عن ابراهيم، لان فيمن عدد من الانبياء لوطا وهو كان ابن اخته، وقيل ابن اخيه، ولم يكن من ذريته.
وهذا الذي قاله ليس بشىء، لانه لا يمنع أن يكون غلب الاكثر. وجميع من ذكر من نسل ابراهيم، على أنه قال فيما روى عنه ابن مسعود أن الياس: إِدريس، وهو جدُّ نوح، ولم يكن من ذريته، ومع هذا لم يطعن على قول من قال: إِنها كناية عن نوح. وقال ابن اسحاق: الياس هو ابن اخي موسى ويجوز أن تكون الهاء كناية عن ابراهيم ويكون مَنْ سَّماهم الى قوله { وكل من الصالحين } من ذريته، ثم قال { وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً } فعطفهم على قوله { ونوحا هدينا }.
وفي الآية دلالة على أن الحسن والحسين من ولد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لأن عيسى جعله الله من ذرية ابراهيم أو نوح، وإنما كانت أمه من ذريتهما، والوجه في الآيات أن الله تعالى أخبر أنه رفع درجة ابراهيم بما جعل في ذريته من الانبياء وجزاه بما وصل اليه من السرور والابتهاج عندما أعلمه عن ذلك وبما أبقى له من الذكر الرفيع في الاعقاب، والجزاء على الاحسان لذة وسرور من أعظم السرور واكثر اللذات إِذا علم الانسان بأنه يكون من عقبة وولده المنسوبين اليه أنبياء يدعون الى الله ويجاهدون في سبيله ويكونون ملوكا وخلفاء يطيعون الله ويحكمون بالحق في عباد الله.
ثم اخبر انه جزى نوحا بمثل ذلك على قيامه في الدعاء اليه والجهاد في سبيله. والهداية في الآيات كلها هو الارشاد الى الثواب دون الهداية التي هي نصب الادلة، لانه تعالى قال في آخر الآيات: { وكذلك نجزي المحسنين } فبين أن ذلك جزاء ولا يليق إلا بالثواب الذي يختص به المحسنون دون الهداية التي هي الدلالة ويشترك فيها المؤمن والكافر، وهو قول أبي علي الجبائي والبلخي.
وقوله: { أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة } إِشارة الى من تقدم ذكره من الانبياء.
وقوله { فإن يكفر بها هؤلاء } يعني الكفار الذين جحدوا نبوة النبي (صلى الله عليه وسلم) في ذلك الوقت، { فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين } معنى { وكلنا بها } اي وكلنا بمراعاة أمر النبوة وتعظيمها والأخذ بهدي الانبياء قوما ليسوا بها بكافرين. وإِنما اضاف ذلك إِلى المؤمنين وان كان قد فعل بالكافرين أيضا ازاحة العلة في التكليف من حيث أن المؤمنين هم الذين قاموا بذلك وعملوا به فأضافه اليهم، كما أضاف قوله { هدى للمتقين } وان كان هداية لغيرهم.
وقيل في المعنيين بقوله { ليسوا بها بكافرين } ثلاثة اقوال: احدها - انه عنى بذلك الانبياء الذين جرى ذكرهم آمنوا بما أتى به النبي (صلى الله عليه وسلم) في وقت مبعثهم وهو قول الحسن والزجاج والطبري والجبائي. قال الزجاج لقوله تعالى { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } وذلك اشارة الى الانبياء الذين ذكرهم ووصفهم وامر النبي (صلى الله عليه وسلم) بالاقتداء بهداهم.
والثاني - انه عنى به الملائكة، ذهب اليه أبو رجاء العطاردي.
وقال قوم عنى به من آمن من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) في وقت مبعثه.
وقال الفراء والضحاك: قوله { فإن يكفر بها هؤلاء } يعني أهل مكة { فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين } يعني أهل المدينة، والأول أقوى.
وفى الآية دلالة على ان الله تعالى يتوعد من يعلم انه لا يشرك ولا يفسق وان الوعد والوعيد قد يكونان بشرط.
وقوله: { أولئك الذين هدى الله } معناه اولئك الذين حكم الله لهم بالهدى والرشاد، وزادهم هدى حين اهتدوا. والمراد به الانبياء الذين تقدم ذكرهم ألثمانية عشر. وأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بأن يسلك سبيلهم ويأخذ بهداهم في تبليغ الرسالة والصبر على المحن وان يقول لقومه { لا أسألكم عليه أجراً } يعني على الاداء والابلاغ، ولكنه يذكر به العالمين وينبههم على ما يلزمهم من عبادة الله والقيام بشكره.
وقوله { فبهداهم اقتده } قرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب والكسائي عن ابي بكر بحذف الهاء في الوصل واثباتها في الوقف. الباقون باثباتها في الوصل والوقف وسكونها، إِلا ابن ذكوان فانه كسرها، ووصلها بياء في اللفظ وإِلا هشاما فانه كسرها من غير صلة بتاء، ولا خلاف في الوقف انها بالهاء ساكنة.
قال ابو علي الفارسي الوجه الوقف بالهاء لاجتماع الكثرة، والجمهور على إِثباته، ولا ينبغي أن يوصل والهاء ثابتة، لانه هذه الهاء في السكت بمنزلة همزة الوصل في الابتداء في أن الهاء للوقف كما أن همزة الوصل للابتداء بالساكن، فكما لا تثبت الهمزة في الوصل كذلك ينبغي أن لا تثبت الهاء. قال ابو علي وقراءة ابن عامر بكسر الهاء وإِشمام الهاء الكسرة من غير بلوغ ياء ليس بغلط، ووجهها أن يجعل الهاء كناية عن المصدر لا التي تلحق للوقف. وحسن اضماره لذكر الفعل الدال عليه، ومثل ذلك قول الشاعر:

فجال على وحشية وتخاله على ظهره سبأ حديداً يمانيا

كأنه قال تخال خيلا على ظهره سبأ حديدا، ومثل ذلك قول الشاعر:

هذا سراقة للقرآن يدرسه والمرؤ عند الرشا أن يلقها ذئب

فالهاء كناية عن المصدر، ويدل يدرسه على الدروس، ولا يجوز أن يكون ضمير القرآن، لان الفعل قد تعدى اليه باللام، فلا يجوز أن يتعدى اليه والى ضميره كما أنك إِذا قلت أزيداً ضربته لم ينصب زيدا بضربت لتعديه الى الضمير، وقياسه إِذا وقف عليه أن يقول اقتده فيكسر (هاء) الضمير، كما تقول اشتره في الوقف. وفي الوصل اشتريه لنا يا هذا.
واستدل قوم بقوله { فبهداهم اقتده } على ان النبي (صلى الله عليه وسلم) كان متعبدا بشريعة من قبله من الانبياء وهذا لا دلالة فيه، لان قوله { فبهداهم اقتده } معناه فبأدلتهم اقتده. والدلالة ما اوجبت العلم ويجب الاقتداء بها، لكونها موجبة للعلم لا غير ولذلك قال تعالى { ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده } فنسب الهدى الى نفسه، فعلم بذلك أنه أراد ما قلناه. وقوله { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } يدل على أن الهدى في قوله { واجتبيناهم وهديناهم } هداية الثواب على الاعمال الصالحة، لان الثواب على الاعمال هو الذي ينحبط تارة ويثبت اخرى دون الهداية التي هي الادلة الحاصلة للمؤمن والكافر. وقوله { وكلا فضلنا على العالمين } يعني على عالمي زمانهم الذين ليسوا أنبياء وإِنما دخلت (من) في قوله { من آبائهم وذرياتهم } للتبعيض كأنه قال: وبعض آبائهم وبعض ذرياتهم وبعض اخوانهم هديناهم ولو لم تدخل (من) لاقتضى انه هدى جميعهم الهداية التي هي الثواب، والامر بخلافه. وقوله { اجتبيناهم } معناه اخترناهم.
وقوله { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } لا يدل على صحة ثواب طاعاتهم التي اشركوا في توجيهها الى غير الله لانهم اوقعوها على خلاف الوجه الذي يستحق به الثواب، فأما ما تقدم فليس في الآية ما يقتضي بطلانه غير أنا قد عملنا أنه إِذا أشرك لا ثواب معه أصلا، لاجماع الامة على أن المشرك لا يستحق الثواب، فلو كان معه ثواب وقد ثبت أن الاحباط باطل، لكان يؤدي الى أن معه ثوابا وعقابا، لانا قد بينا بطلان القول بالتحابط في غير موضع وذلك خلاف الاجماع.