التفاسير

< >
عرض

قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوۤاْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٦
وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ
٧
قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٨
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٩
فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١٠
وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
١١
-الجمعة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

هذا أمر من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله أن يخاطب اليهود، فيقول لهم { إن زعمتم أنكم أولياء لله } فالزعم قول عن ظن او علم، ولهذا صارت من أخوات (ظن) فى الظن والعلم وعملت ذلك العمل من الاعراب قال الشاعر:

فان تزعميني كنت أجهل فيكم فأني شريت الحلم بعدك بالجهل

والاولياء جمع ولي، وهو الحقيق بالنصرة التي يوليها عند الحاجة، فالله ولي المؤمنين، لأنه يوليهم النصرة عند حاجتهم. والمؤمن ولي الله لهذه العلة. ويجوز أن يكون لأنه يولي المطيع له بنصرته عند حاجته، فقال الله لهؤلاء اليهود: إن كنتم تظنون على زعمكم أنكم انصار الله وأن الله ينصركم { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } فى ادعائكم أنكم أولياؤه دون الناس، فالتمني هو قول القائل - لما كان - ليته لم يكن، ولما لم يكن: ليته كان. وهو من صفات الكلام. وقال بعضهم: هو معنى فى النفس.
ثم اخبر تعالى عن حالهم وكذبهم واضطرابهم فى دعواهم، وانهم غير واثقين بما يدّعونه فقال { ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم } ومعناه لا يتمنون الموت أبداً فيما بعد { بما قدمت أيديهم } مما لا يرجعون فيه إلى ثقة من التكذيب بالنبي صلى الله عليه وآله والتحريف لصفته فى التوراة { والله عليم بالظالمين } أي عالم بأحوالهم وافعالهم، لا يخفى عليه شيء منها.
وفى الاية دليل على النبوة لأنه اخبر بأنهم لا يتمنون الموت ابداً، وما تمنوه فكان ذلك اخباراً بالصدق قبل كون الشيء، وذلك لا يعلمه، إلا الله تعالى. وفيها بطلان ما ادعوه من انهم أولياء الله.
ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله { قل } لهم { إن الموت الذي تفرون منه } أي تهربون منه { فإنه ملاقيكم } وإنما قال { فإنه } بالفاء، وسواء فروا منه او لم يفروا منه فانه ملاقيهم، مبالغة فى الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه لانه إذا كان الفرار منه بمنزلة السبب فى ملاقاته فلا معنى للتعرض له لانه لا يباعد منه قال زهير:

ومن هاب اسباب المنايا ينلنه ولو رام أن يرقى السماء بسلم

وهن ينلنه هابها او لم يهبها، ولكنه إذا كانت هيبته بمنزلة السبب للمنية كان لا معنى للهيبة، وقال قوم: تقديره قل إن الموت هو الذي تفرون منه فجعلوا { الذي } فى موضع الخبر لا صلة. ويكون { فإنه } مستأنف.
وقوله { ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة } معناه ثم ترجعون الى الله تعالى يوم القيامة الذي يعلم سركم وعلانيتكم وظاهركم وباطنكم، لا يخفى عليه شيء من أحوالكم { فينبئكم } أي يخبركم { بما كنتم تعملون } فى دار الدنيا ويجازيكم بحسبها على الطاعة بالثواب وعلى المعاصي بالعقاب، ثم خاطب المؤمنين فقال { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } معناه إذا سمعتم، أذان يوم الجمعة فامضوا إلى الصلاة. قال قتادة: معناه امضوا إلى الصلاة مسرعين غير متثاقلين وبه قال ابن زيد والضحاك. وقال الزجاج: المعنى فامضوا إلى السعي الذي هو الاسراع قال وقرأ ابن مسعود { فامضوا } إلى ذكر الله ثم قال: لو علمت الاسراع لأسرعت حتى يقع ردائي عن كتفي. قال: وكذلك كان يقرأ
{ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى } يريد مضى فيه دون الاسراع. ومثله قوله { إن سعيكم لشتى } وفرض الجمعة لازم على جميع المكلفين إلا صاحب العذر: من سفر او مرض او عمى او عرج او آفة وغير ذلك. وعند اجتماع شروط وهي: كون سلطان عادل او من نصبه السلطان للصلاة، وتكامل العدد - عندنا - سبعة، وعند قوم اربعين. وعند آخرين أربعة، وثلاثة. وقد بينا الخلاف فى ذلك فى (خلاف الفقهاء).
وظاهر الآية متوجه إلى المؤمنين وإنما يدخل فيه الفاسق على التغليب، كما يغلب المذكر على المؤنث، هذا على قول من يقول إن الفاسق ليس بمؤمن. فأما من قال: إنه مؤمن مع كونه فاسقاً، فالآية متوجهة اليهم كلهم. وقال مجاهد وسعيد ابن المسيب: المراد بالذكر موعظة الامام فى خطبته. وقال غيرهما: يعني الصلاة التي فيها ذكر الله.
وقوله { وذروا البيع } معناه إذا دخل وقت الصلاة اتركوا البيع والشراء. قال الضحاك: إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء. وقال الحسن: كل بيع تفوت فيه الصلاة يوم الجمعة فانه بيع حرام، لا يجوز، وهو الذي يقتضيه ظاهر مذهبنا، لان النهي يدل على فساد المنهي عنه. ثم قال { ذلكم } يعني ما ذكره من السعي الى الصلاة { خير لكم } فى دينكم وانفع لكم عاقبة { إن كنتم تعلمون } صحة ما قلناه أي اعلموه.
وقوله تعالى { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } أي إذا صليتم الجمعة فانتشروا فى الأرض طلباً لرزق الله. وصورته صورة الأمر وهو إباحة وإذن ورخصة - فى قول الحسن والضحاك وابن زيد وغيره - { وابتغوا من فضل الله } أي اطلبوا من فضل الله بعمل الطاعة والدعاء به { واذكروا الله كثيراً } يا محمد على إحسانه وبالشكر على نعمه والتعظيم لصفاته { لعلكم تفلحون } ومعناه لتفلحوا وتفوزوا بثواب النعيم.
ثم اخبر تعالى عن حال جماعة كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله وهو يخطب وهم معه يصلي بهم، فقال { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } قال جابر بن عبد الله والحسن: قدم عير لدحية الكلبي فيها طعام المدينة بعدما أصابتهم مجاعة، فاستقبلوه باللهو والمزامير والطبول - فى قول جابر بن عبد الله ومجاهد - وكانوا مع النبي صلى الله عليه وآله فى الصلاة فلما سمعوا صوت الطبول والمزامير { انفضوا } أي تفرقوا إلى العير يبصرونه وتركوا النبي صلى الله عليه وآله وحده قائماً، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وآله { قل } لهم يا محمد { ما عند الله } من الثواب على سماع الخطبة وحضور الموعظة { خير من اللهو ومن التجارة } وانفع واحمد عاقبة { والله خير الرازقين } أى ليس يفوتهم بترك البيع شيء من رزق الله، والتقدير وإذا رأوا تجارة او لهواً انفضوا اليها وتركوك أى اليه، وإنما قيل { إليها } لانها كانت أهم اليهم، ذكره الفراء. وقيل: تقديره وإذا رأوا لهواً او تجارة انفضوا اليها، فرد الضمير الى اقرب المذكورين، لأنه كان أهم اليهم، وكذلك قرأ ابن مسعود فى مصحفه.