التفاسير

< >
عرض

فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
١٦
إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ
١٧
عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١٨
-التغابن

التبيان الجامع لعلوم القرآن

هذا أمر من الله تعالى للمكلفين يأمرهم بأن يتقوه بأن يتركوا معاصيه ويفعلوا طاعاته. فالاتقاء الامتناع من الردى باجتناب ما يدعو اليه الهوى. يقال: اتقاه بالترس إذا امتنع منه بأن جعله حاجزاً بينه وبينه. وقوله { ما استطعتم } معناه اتقوه بحسب طاقتكم، فان الله تعالى لا يكلف نفساً ما لا تطيقه، وإنما يكلفها ما تسعه له، ولا ينافي هذا قوله { اتقوا الله حق تقاته } لان كل واحد من الأمرين إنما هو إلزام ترك جميع معاصيه فمن ترك جميع المعاصي فقد اتقى عقاب الله، لان من لم يفعل قبيحاً ولا أخل بواجب فلا عقاب عليه إلا أن في احد الكلامين تبيين أن التكليف لا يلزم العبد إلا فيما يطيق. وهذا يقتضي أن اتقاءه فيما وقع من القبيح ليس بأن لا يكون وقع وإنما هو بالندم عليه مع العزم على ترك معاودته. وكل أمر يأمر الله به فلا بد من أن يكون مشروطاً بالاستطاعة، فان كانت الاستطاعة غير باقية على مذهب من يقول بذلك، فالامر بما يفعل في الثالث. وما بعده مشروط بأن يفعل له إستطاعة قبل الفعل بوقت وإلا لا يكون مأموراً بالفعل، وإن كانت ثابتة فالامر على صفة الاستطاعة، لانه لا يصح الشرط بالموجود، لان الشرط يحدث، فليس يخلو من ان يكون على شريطة وقوع القدرة او على صفة وجود القدرة وقال قتادة قوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } ناسخ لقوله { اتقوا الله حق تقاته } كأنه يذهب إلى أن فيه رخصة لحال التقية وما جرى مجراها مما يعظم فيه المشقة وإن كانت معه القدرة على الحقيقة. وقال غيره: ليس بناسخ، وإنما هو مبين لا مكان العمل بهما جميعاً. وهو الصحيح، لأن تقديره: اتقوا الله حق تقاته فيما استطعتم.
وقوله { واسمعوا } أي اصغوا إلى ما يأمركم الله به { وأطيعوا } فيما آمركم به { وأنفقوا } فيما أمركم بالانفاق فيه من الزكاة والانفاق فى سبيل الله وغير ذلك { خيراً لأنفسكم } انتصب { خيراً } بفعل محذوف يدل عليه { أنفقوا } وتقديره وأنفقوا الانفاق خيراً لانفسكم، ومثله انتهوا خيراً لكم، وهو كقولهم: وذاك أوسع لك لأنك إذا أمرته بشيء فهو مضمن بأن يأتي خيراً له.
وقوله { ومن يوق شح نفسه } أي من منع ووقى شح نفسه. والشح منع الواجب فى الشرع. وقيل: الشح منع النفع على مخالفة العقل لمشقة البذل، ومثله البخل يقال: شح يشح شحاً فهو شحيح وشحاح. وقال ابن مسعود: من الشح أن تعمد الى مال غيرك فتأكله.
وقوله { فأولئك هم المفلحون } معنان إن من وقى شح نفسه وفعل ما اوجبه الله عليه فهو من جملة المنجحين الفائزين بثواب الله. وقوله { إن تقرضوا الله قرضاً حسناً } والقرض أخذ قطعة من المال بتمليك الآخذ له على رد مثله وأصله القطع: من قرض الشيء يقرضه قرضاً إذا قطع منه قطعة. وذكر القرض فى صفة الله تلطفاً فى الاستدعاء إلى الانفاق فى سبيل الله، وهو كالقرض فى مثله مع اضعافه ولا يجوز أن يملك الله - عز وجل - لانه مالك للاشياء من غير تمليك ولأن المالك لا يملك ما هو مالكه. وقوله { يضاعفه لكم } أي يضاعف ثوابه لكم بامثاله. ومن قرأ { يضعفه } بالتشديد، فلان الله تعالى بذل بالواحد عشرة إلى سبعين وسبعمائة { ويغفر لكم } أي ويستر عليكم ذنوبكم ولا يفضحكم بها { إن الله شكور حليم } أي يجازي على الشكر { حليم } لا يعاجل العباد بما يستحقونه من العقاب. وقوله { عالم الغيب والشهادة } أي يعلم السر والعلانية وهو { العزيز } الذي لا يغالب { الحكيم }، في جميع افعاله و { الشكور } فى صفة الله مجاز ومعناه إنه يعامل المطيع فى حسن الجزاء معاملة الشاكر و (الحلم) ترك المعاجلة بالعقوبة لداعي الحكمة. و (الغيب) كون الشيء بحيث لا يشاهده العبد. و{ الغائب } نقيض الشاهد وهو { الحكيم } في جميع أفعاله.
وقرأ { يضعفه } بالتشديد ابن كثير وابن عامر. الباقون { يضاعفه } وقد مضى تفسيره.