التفاسير

< >
عرض

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ
٦
لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً
٧
وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً
٨
فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً
٩
أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً
١٠
-الطلاق

التبيان الجامع لعلوم القرآن

خمس آيات فى الكوفي والبصرى والمدني الأخير: وست آيات فى المدني الاول. عدّوا { يا أولي الألباب } رأس آية.
قرأ { من وجدكم } بكسر الواو، روح. الباقون بضمها، و هما لغتان. وحكى الفراء - فتح الواو - لغة ولم يحك الكسر. وحكى الزجاج: الكسرة ولم يحك بالفتحة. وقرأ ابن كثير { وكأين } خفيفة على وزن { كاهن } الباقون { كأين } مشددة الياء، والأصل (أى) إلا انه حذف للتضعيف، كما يحذف من رب، وقدمت الياء وأخرت الهمزة نحو شاك وشائك. ثم قلبت الياء ألفاً، لانها فى موضع حركة وقبلها فتحة نحو: رمي، وإنما احتمل هذا التغيير للعدول به عن معنى الاستفهام إلى معنى { كم } فى التكثير على وجه الابهام. وقال قوم: فى { كأين } لغتان { كأين } مشددة الياء و (كاين) على وزن (قايل) وقد قرأ بهما. وحكي ان أهل الحجاز يقولون: بكاين تبيع هذا الثوب. أي بكم تبيعه.
يقول: الله تعالى مخاطباً لمن طلق زوجته يأمره أن يسكنها حيث يسكنه، وقد بينا أن السكنى والنفقة يجب للرجعية بلا خلاف. فاما البائنة فلا سكنى لها ولا نفقة - عندنا - وهذا مذهب الحسن. وقد روت فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال:
"لا نفقة للمبتوتة" . وقال الشافعي ومالك لها السكنى والنفقة وهو قول معاوية وابن مسعود وعمر بن الخطاب.
وقوله { من وجدكم } قال السدي معناه من ملككم. وقال ابن زيد: هو إذا قال صاحب المسكن لا أترك هذه فى بيتي فليس من وجده. ويجوز له حينئذ أن ينقلها إلى غيره، والوجد ملك ما يجده المالك، وذلك أنه قد يملك المالك ما يغيب عنه. وقد يملك ما هو حاضر له، فذلك وجده، يقال: وجدت فى المال وجداً ووجدة، ووجدت الضالة وجداناً، ووجدت الرجل صالحاً وجوداً.
وقوله { ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن } معناه لا تدخلوا الضرر عليهن بالتقصير فى النفقة والسكنى والكسوة وحسن العشرة لتضيقوا عليهن فى السكنى والنفقة، وأمر بالسعة. والمضارة المعاملة بما يطلب به ايقاع الضرر والمضارة المعاملة بما يطلب به إيقاع الضرر بصاحبه. وقد تكون المضارة من واحد كما يقال: طارقت النعل، وعافاه الله، ويمكن أن يكون من كل واحد منهما لصاحبه. والتضيق تقليل ما يحتاج إلى التصرف فيه عن مقدار الكفاية. وقد يكون التضييق فى الرزق وفى المكان وفى الأمر. و { إن كنّ } يعني النساء المطلقات { أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } أمر من الله تعالى بالانفاق على الحامل المطلقة سواء كانت رجعية او مبتوتة، ولا خلاف فى ذلك، وإنما يجب ان ينفق عليها بسبب ما فى بطنها، وإنما تسقط نفقتها بالوضع. والحمل - بفتح الحاء - يكون على الظهر وفى البطن، ويقال للعدل - الحمل - بكسر الحاء.
وقوله { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } أمر من الله تعالى بأن الأم المطلقة متى ولدت ورغبت فى رضاع ولدها، كان على الأب أجرة الرضاع أجرة المثل، فان رضيت الاجنبية بشيء معلوم لاجرة الرضاع ورضيت بمثله الأم كانت الأم أولى، وإن لم ترض الأم بذلك القدر كان للأب تسليمه الى الاجنبية، وان كان الولد لا يقبل إلا لبن الأم أجبرت عليه. وإلا أدّى الى هلاك الولد. والرضاع سقي المرأة من لبنها للولد. ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله
"يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" يعني ان المرضعة تصير بمنزلة الام، وأمها بمنزلة الجدة واختها خالة، وبنتها اختاً وابنها اخاً، وهكذا سائر المحرمات.
وقوله { واتمروا بينكم بمعروف } فالائتمار أمر كل واحد لصاحبه بفعل من الافعال كالائتمار بالمعروف الذي يصطلحان عليه.
وقوله { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } خطاب للرجل ولزوجته المطلقة أنهما متى اختلفا فى رضاع الصبي واجرته أرضعته امرأة اخرى فالتعاسر التمانع يتعذر من الأمر كالتمانع بما يتعسر به رضاع الام، فمتى كان كذلك فالحكم فيه أن ترضعه امرأة اخرى ثم امر تعالى فقال { لينفق ذو سعة من سعته... } ومعناه ان كل انسان يجب عليه النفقة بحسب حاله فالغنى ينبغي ان يوسع فى النفقة والفقير بحسب حاله.
وقوله { ومن قدر عليه زرقه } معناه من ضيق عليه، لأنه أتى على مقدار البلغة التي تضيق عن غيره، فمن هذه صورته { فلينفق مما آتاه الله } على حسب امكانه وطاقته { لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها } يعني إلا بقدر ما أعطاها من الطاقة. وفي ذلك دلالة على انه تعالى لا يكلف أحداً ما لا يقدر عليه ولا يطيفه. ثم قال { سيجعل الله بعد عسر يسراً } أي سيفعل الله بعد شدّة سهولة، فاليسر اتيان الأمر من غير مشقة، وهو سهولة الأمر، وضده العسر، وهو صعوبة الأمر.
وقوله { وكأين من قرية } معناه و { كم من قرية } على التكثير، لانه يخبر بـ { كم } عن الكثرة { عتت عن أمر ربها } والعتو الخروج إلى فاحش الفساد. والمعنى كم من أهل القرية كفروا بالله وتجبروا عن طاعته وخرجوا بذلك الى افحش الفساد { ورسله } معناه عتوا عن امر الله وامر رسوله { فحاسبناها حساباً شديداً } فالحساب الاعمال مقابلة ما يستحق على الطاعة وبما يستحق على المعصية والحساب الشديد مقابلة ذلك من غير تجاوز عن صغيرة ولا عفو عن ذنب، وذلك أن الكافر يعاقب على كل صغيرة وكبيرة من حيث انه لا طاعة معه تكفر معاصيه. وقوله { وعذبناها عذاباً نكراً } معناه عذبنا أهل تلك القرية العاتية عذاباً نكراً، وهو الذي ينكره الطبع وتأباه النفوس لصعوبته وشدته. والأمر النكر الذي ينكره العقل. وقوله { فذاقت وبال أمرها } فالوبال عاقبة السوء، أسند الفعل الى القرية، فلذلك أنث قوله { فذاقت } ولو قال: { عتوا، عن أمر ربهم، وعذبناهم فذاقوا } على المعنى كان جائزاً. والوبال ثقل العائد من الضر. وقيل: ان معنى نكر أنه متجاوز في الشدة لكل ما عرفوه فى الدنيا من العقوبة { وكان عاقبة أمرها حسراً } أي وكان آخر أمر تلك القرية العاتية خسراً أي هلاك أنفسهم، وأصله هلاك رأس المال. ثم بين ما لهم في الآخرة، فقال { أعد الله لهم عذاباً شديداً } من عذاب النار يعاقبهم به على طريق التأبيد موجعاً شديد الألم { فاتقوا الله } يا معاشر العقلاء { يا أولوا الألباب الذين آمنوا } يعني المؤمنين منهم، وخصهم بالذكر والخطاب، لانهم المنتفعون بذلك دون الكفار. وقوله تعالى { قد أنزل الله إليكم ذكراً } قال قوم: أراد بالذكر القرآن لانه سماه ذكراً في قوله
{ إنا نحن نزلنا الذكر } ذهب اليه السدي وابن زيد، فعلى هذا تقديره انزل الله اليكم ذكراً وارسل اليكم رسولا، وسماه ذكراً لانه يتذكر به ما يجب العمل به والانتهاء عنه. وقيل إن معنى الذكر الشرف كأنه قال: أنزل الله اليكم شرفاً. وقيل: المراد بالذكر الرسول لقوله { فاسألوا أهل الذكر } ذهب اليه الحسن، فعلى هذا يكون { رسولا } بدلا منه، وتقديره أنزل الله اليكم ذكراً هو رسوله. قال الزجاج: تقديره فأنزل الله اليك ان ذكر رسولا هو جبرائيل عليه السلام.