التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١
قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ
٢
وَإِذْ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ
٣
إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ
٤
عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً
٥
-التحريم

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ اهل الكوفة { تظاهرا } خفيفة. الباقون بالتشديد، يعني { تتظاهرا } فأدغم. ومن خفف حذف أحداهما. وقرأ الكسائي وحده { عرف بعضه } خفيفاً وهي قراءة الحسن وابي عبد الرحمن، وكان أبو عبد الرحمن إذا قرأ إنسان بالتشديد خطأه. وقرأ ابن كثير { جبريل } بفتح الجيم وكسر الراء من غير همزة. وقرأ - بكسر الجيم والراء من غير همز - نافع وابو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم. وقرأ بفتح الجيم والراء وكسر الهمزة مقصور على وزن (جحمرش) أبو بكر عن عاصم. وقرأ بفتح الجيم والراء مهموزة بين الراء والياء على وزن (خزعيل) حمزة والكسائي وقد بينا الوجه فى ذلك في سورة البقرة. قال ابو علي: جبريل - بكسر الجيم - بلا همزة على وزن (قنديل) وبفتح الجيم والراء والهمزة مع المد على وزن (عندليب) وبفتح الجيم والراء وكسر الهمزة على وزن (جحمرش) وليس في العربية على وزن (قنديل) بفتح القاف غير أنه جاء خارجاً على أوزان العربية.
هذا خطاب من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وعتاب له على تحريم ما أباحه الله له وأحله له، ولا يدل على انه وقعت منه معصية، لان العتاب قد يكون على أمر قد يكون الأولى خلافه، كما يكون على ترك الواجب.
وقيل في سبب نزول قوله { يا أيها النبي } قولان:
احدهما - قال زيد بن أسلم ومسروق وقتادة والشعبي وابن زيد والضحاك: ان النبي صلى الله عليه وآله حرم على نفسه مارية القبطية بيمين انه لا يقر بها طلباً لمرضاة حفصة زوجته، لانها غارت عليه من أجلها، وقال الحسن: حرم رسول الله أم ولده إبراهيم، وهي مارية القبطية على نفسه فأسر بذلك الى زوجته حفصة فأفضت به إلى عائشة وكانت حفصة بنت عمر قد زارت عائشة، فحلا بيتها، فوجه رسول الله الى مارية القبطية، وكانت معه وجاءت حفصة فأسر اليها التحريم.
والقول الثاني - ما رواه عبد الله بن شداد بن الهلال: ان النبي صلى الله عليه وآله كان شرب عند زينب شراب عسل كانت تصلحه له، فكان يطول مكثه عندها فكره ذلك عائشة وحفصة، فقالت له إنا نشم منك ريح المغافير، وهي بقلة متغيرة الرائحة - في قول المفسرين - وقال الزجاج: هي بقلة منتنة، فحرم النبي صلى الله عليه وآله شراب العسل الذي كان يشربه عند زوجته زينب بنت جحش. وقيل: ذكرت ذلك له حفصة، فحرمه النبي صلى الله عليه وآله على نفسه. ومن قال: انها نزلت بسبب مارية قال: انه قال: هي علي حرام، فجعل الله فيه كفارة يمين - ذكره ابن عباس والحسن - ومن قال: إن التحريم كان فى شراب كان يعجبه قال: إنه حلف على انه لا يشربه فعاتبه الله على تحريم ما أحل الله له.
والتحريم تبيين ان الشيء حرام لا يجوز، ونقيضه الحلال. والحرام هو القبيح الممنوع بالنهي عنه، والحلال الحسن المطلق بالاذن فيه. وعندنا أنه لا يلزم بقوله أنت علي حرام شيء، ووجوده كعدمه، وهو مذهب مسروق. وفيه خلاف بين الفقهاء ذكرناه فى الخلاف. وإنما اوجب الله الكفارة، لانه صلى الله عليه وآله كان حلف ألا بقرب جاريته أو لا يشرب الشراب المذكور، فعاتبه الله على ذلك وأوجب عليه ان يكفر عن يمينه ويعود الى استباحة ما كان يفعله. وبين أن التحريم لا يحصل إلا بأمر الله ونهيه، وليس يصير الشيء حراماً بتحريم محرم، ولا باليمين على تركه، فلذلك قال { لم تحرم ما أحل الله لك }.
وقوله { تبتغي مرضات أزواجك } معناه إنك تطلب رضاء أزواجك في تحريم ما أحله الله لك. فالابتغاء الطلب، ومنه البغي طلب الاستعلاء بغير حق، والبغية معتمد الطلب والبغيّ الفاجرة لطلبها الفاحشة.
وقوله { والله غفور رحيم } معناه ارجع الى الأولى والأليق، فان الله يرجع للتائب الى التولي، لانه غفور رحيم.
وقوله { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } أي قد قدر الله تعالى ما تحلون به يمينكم إذا فعلتموه، وذلك يدل على انه صلى الله عليه وآله كان حلف دون ان يكون قال: هي عليّ حرام، لان ذلك ليس بيمين - عند اكثر الفقهاء - وقال الحسن: فرض الله تحلة اليمين في الكفارة للمؤمنين. فأما النبي صلى الله عليه وآله فلا كفارة عليه، لان الله تعالى غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وتحلة اليمين هو فعل ما يسقط تبعته في اليمين إما بكفارة او بتناول شيء من المحلوف عليه، فمن حلف ألا يأكل من هذا الطعام، فمتي أكله حنث، ولزمته كفارة، وينحل اليمين بها، ومن حلف أنه يأكل من هذا الطعام وأكل منه شيئاً قليلا فقد انحلت يمينه، فلذلك سمي تحلة اليمين.
وقوله { والله مولاكم } معناه الله ناصركم، وهو أولى بكم منكم بأنفسكم، ومن كل احد { وهو العليم } بجميع الاشياء { الحكيم } فى جميع أفعاله.
وقوله { وإذ أسرّ النبي } معناه واذكروا حين أسر النبي { إلى بعض أزواجه حديثاً } فالاسرار القاه المعنى إلى نفس المحدث على وجه الاخفاء عن غيره، يقال: أسر اليه كذا وكذا إسراراً والاسرار نقيض الاعلان. وقيل: إنه كان أسر إلى حفصة ألا تخبر عائشة بكونه مع مارية فى يوم عائشة وقال إنه حرمها على نفسه، فأطلعت عليه عائشة. وقيل: إنه كان يوم حفصة، فأطلعت عليه عائشة فاستكتمها النبي فأخبرت حفصة بذلك فانتشر الخبر فعاتبهم الله على ذلك. وقال الزجاج والفراء: أسر اليها بأنه سيلي الأمر بعده أبو بكر وعمر وعثمان فتباشروا بذلك فانتشر الخبر. وروى أصحابنا انه أسر الى عائشة بما يكون بعده من قيام من يقوم بالأمر ورفع علي عليه السلام عن مقامه فبشرت بذلك أباها فعاتبهم الله على ذلك.
وقوله { فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض } معناه لما أخبرت التي اسر اليها الذي خبرها به الى غيرها وأعلم الله تعالى نبيه ذلك واظهره له { عرف بعضه وأعرض عن بعض } فمن قرأ بالتخفيف قال الفراء: معناه إنه عاتب على بعض ذلك وصفح عن الباقي. وروي انه طلق حفصة تطليقة جزاء على ذلك ثم راجعها بأمر الله تعالى، وقيل: معنى قراءة من شدد أراد انه صلى الله عليه وآله أعلمها جميع ذلك وعرفها إياه، فلما نبأها به يعني لما أخبر النبي صلى الله عليه وآله، زوجته بذلك وعرفها أنها افشت سره { قالت } له فى الجواب { من أنبأك هذا } أي من اخبرك بهذا فقال النبي صلى الله عليه وآله { نبأني } أي اخبرني بذلك واعلمني { العليم } بجميع المعلومات { الخبير } بسرائر الصدور الذي لا يخفى عليه شيء من أمور عباده ظاهراً وباطناً.
ثم خاطبهما يعني عائشة وحفصة وقال قل لهما { إن تتوبا إلى الله } وترجعا الى طاعته { فقد صغت قلوبكما } قال ابن عباس ومجاهد: معناه زاغت قلوبكما إلى الاثم. وقال عمر بن الخطاب وجميع أهل التأويل: انه عنى عائشة وحفصة، وقال بعضهم: معناه مالت قلوبكما الى ما كرهه الله من تحريم ما حرمه. وقوله { فقد صغت قلوبكما } من صلة { إن تتوبا إلى الله } والجواب محذوف، وتقديره إن تتوبا الى الله قبلت توبتكما، وقال قوم { فقد صغت قلوبكما } جواب كقول القائل إن تتابع المجيء اليّ فلقد جفوتني وقطعتني دهراً أي يحق لك ان تفعل ذلك، فقد صرمت فيما قبل. وإنما قال { قلوبكما } مع أن لهما قلبين، لأن كلما تثبت الاضافة فيه معنى التثنية، فلفظ الجمع أحق به، لأنه أمكن واخف باعراب الواحد وقلة الزائد. وذلك فى كل شيئين من شيئين، ويجوز التثنية لأنها الاصل، كما قال الراجز:

ظهراهما مثل ظهور الترسين

فجمع المذهبين. وقوله { وإن تظاهرا عليه } معناه وإن تعاونا على خلافه { فإن الله هو مولاه } يعني الله الذي يتولى حفظه وحياطته ونصرته { وجبريل } ايضاً معين له وناصره { وصالح المؤمنين } قال الضحاك: يعنى خيار المؤمنين. وقال قتادة: يعني أتقياء المؤمنين. وقال الزجاج: { صالح المؤمنين } واحد فى موضع الجمع، وقال أبو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني: هو صالحوا المؤمنين على الجمع، غير انه حذفت الواو للاضافة، وهذا غلط، لأن النون سقطت للاضافة، فكان يجب ان يثبت الواو في الحظ، وفي المصاحف بلا واو،
وروت الخاصة والعامة أن المراد بصالح المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وذلك يدل على انه أفضلهم، لان القائل إذا قال: فلان فارس قومه او شجاع قبيلته او صالحهم، فانه يفهم من جميع ذلك انه افرسهم واشجعهم واصلحهم.
وقوله { والملائكة بعد ذلك ظهير } معناه إن الملائكة بعد من ذكره معينون له، فالظهير المعين الذي هو كالظهر له في القوة.
وقوله { عسى ربه إن طلقكن } معاشر نساء النبي { أن يبدله أزواجاً خيراً منكن } فمن خفف الدال، فلأنه يدل على القليل والكثير، ومن شدد أراد ان الله يبدلهن اكثر منهن. ومعنى { خيراً منكن } أي افضل منكن وأصلح له. ثم وصفهن تعالى فقال { مسلمات } وهن اللواتي يظهرن الاسلام والشهادتين مستسلمات لما أمر الله به { مؤمنات } أي مصدقات بتوحيد الله واخلاص العبادة له مقرات بنبوة نبيه صلى الله عليه وآله وقيل: معناه مصدقات في قولهن وفعلهن { قانتات } أي خاضعات متذللات لله تعالى. وقيل: معنى { قانتات } راجعات الى الله بفعل ما يجب له - عز وجل - { عابدات } لله بما تعبدهن به من العبادات متذللات له { سائحات } معناه ماضيات في طاعة الله. وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: معنى سائحات صائمات. وقال زيد ابن اسلم: معنى { سائحات } مهاجرات، وهو اختيار الجبائي وقيل: للصائم سائح، لانه يستمر فى الامساك عن الطعام والشراب، كما يستمر السائح فى الارض { ثيبات } وهن الراجعات من عند الأزواج بعد افتضاضهن مشتق من ثاب يثوب اذا رجع { وأبكاراً } جمع بكر، وهي التي على أول حالها قبل الافتضاض.