التفاسير

< >
عرض

تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١
ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ
٢
ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ
٣
ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ
٤
وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ
٥
-الملك

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ حمزة والكسائي { من تفوّت } بتشديد الواو بلا ألف. الباقون { تفاوت } على وزن تفاعل. ومعناهما واحد. وهو مثل: تصعر وتصاعر، وتعهد وتعاهد. والتفاوت إختلاف التناقض، وهو تباعد ما بين الشيئين فى الصحة. والتباين امتناع كل واحد من المعنيين ان يصح مع الآخر.
يقول الله تعالى مخبراً عن عظمته وعلو شأنه { تبارك الذي بيده الملك } فمعنى تبارك بأنه الثابت الذي لم يزل ولا يزال. وأصل الصفة من الثبوت من البرك وهو ثبوت الطائر على الماء. ومنه البركة ثبوت الخير بنمائه. وقيل: معناه تعاظم بالحق من لم يزل ولا يزال، وهو راجع إلى معنى الثابت الدائم. وقيل: المعنى تبارك من ثبوت الاشياء به إذ لولاه لبطل كل شيء لانه لا يصح شيء سواه إلاّ مقدوره او مقدور مقدوره، الذي هو القدرة، لان الله تعالى هو الخالق لها. وقيل: إن معناه تبارك لان جميع البركات منه، إلا ان هذا المعنى مضمن فى الصفة غير مصرح به، وإنما المصرح به تعالى باستحقاق التعظيم.
وقوله { الذي بيده الملك } معناه الذي يجب كونه قادراً وانه السلطان العظيم الذي كل ملك له، ليس من ملك إلا داخل فيه لان الله تعالى مالك الملوك، وممكنهم منها. والملك هو إتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير.
وقوله { وهو على كل شيء قدير } معناه إن الذي بيده الملك والسلطان القادر على كل شيء يصح ان يكون مقدوراً له وهو أخص من قولنا: وهو بكل شيء عليم، لأنه تعالى يعلم كل ما يصح أن يكون معلوماً فى نفسه، ولا يوصف بكونه قادراً إلا على ما يصح ان يكون مقدوراً له، لان مقدور القدرة لا يصح أن يكون مقدوراً له، وكذلك ما تقضى وقته مما لا يبقى لا يصح ان يكون مقدوراً فى نفسه.
ثم وصف تعالى نفسه فقال { الذي خلق الموت والحياة } أي خلق الموت للتعبد بالصبر عليه، والحياة للتعبد بالشكر عليها. وقيل: وجه خلق الموت والحياة للابتلاء هو ما فيها من الاعتبار المؤدي إلى تثبيت قادر على الاضداد مع التحذير فى كل حال من مجيء الموت الذي ينقطع به استدراك ما فات، ومع التسوية بين الغني والفقير والملك والسوقة فى الموت بما يقتضي قاهراً للجميع قد عمهم بحسن التدبير فقد أذل الله ابن آدم بالموت ليكون أبعد من الطغيان فى حال التمكين من العصيان. وفى كون الموت معنى خلاف بين الشيخين: أبي، وأبي هاشم.
وقوله { ليبلوكم } معناه ليعاملكم معاملة المختبر بالامر والنهي فيجازي كل عامل على قدر عمله، الابتلاء الاختبار. وقال الفراء والزجاج: في الكلام اضمار وتقديره ليبلوكم فيعلم أيكم، لأن حروف الاستفهام لا تشغل إلا بفعل يتعلق بالجملة على تقدير المفرد كقولك: علمت أزيد في الدار أم عمرو، وتقديره وقد علمت ان احدهما في الدار (وعرفت، ونظرت) بمنزلة (علمت) في هذا، لانها توافقها في (عرفت انه في الدار) و (نظرت بقلبي انه في الدار) ومثله
{ سلهم أيهم بذلك زعيم } أي سؤال من يطلب ان يعلم ايهم بذلك زعيم، ولو قلت اضرب ايهم ذهب لم يكن إلا نصباً، لانه بمعنى الذي. والقديم تعالى وإن كان عالماً بالاشياء قبل كونها، فانما يبتلي الخلق ويختبرهم اختبار من يطلب العلم، حتى يجازي على الفعل بحسبه، ولما كان لم يحسن الثواب والعقاب والتعظيم والاجلال إلا بعد وجود الطاعة والمعصية لم يكن بدّ من التكليف، والأمر والنهي فأجرى عليه الاختبار مجازاً.
وقوله { وهو العزيز } في انتقامه من اعدائه والكافرين لنعمه، لا يقدر أحد على مغالبته ومقاهرته، غفور لمن تاب اليه، او إن يريد التفضل باسقاط عقابه ولا يصح التكليف إلا مع الترغيب والترغيب، لأن التمكين من الحسن والقبيح يقتضي ذلك، والتكليف تحميل المشقة في الأمر والنهي.
ثم عاد إلى صفات نفسه فقال { الذي خلق سبع سماوات طباقاً } أي انشأ واخترع سبع سموات واحدة فوق الأخرى { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } يعني من اختلاف وتناقض، وذلك يدل على ان ما فيه تفاوت من الكفر والمعاصي ليس من خلق الله، لانه نفى نفياً عاماً أن يكون فيما خلقه تفاوت. وتفاوت وتفوت مثل تصاعر وتصعر.
ثم نبه تعالى العاقل على صحة ما قاله من انه ليس فى خلق الله تفاوت. فقال { فارجع البصر } أي فرد البصر وأدرها فى خلق الله من السموات { هل ترى من فطور } أي من شقوق وصدوع يقال: فطره يفطره، فهو فاطر إذا شقه ومنه قوله
{ تكاد السماوات يتفطرن منه } أى يتصدعن. وقال ابن عباس: معناه هل ترى من وهن، وقال قتادة: من خلل. وقال سفيان: من شقوق. ثم أكد ذلك بقوله { ثم ارجع البصر كرتين } أي دفعة ثانية، لان من نظر فى الشيء كرة بعد أخرى بان له ما لم يكن بايناً له.
ثم بين انه إذا فعل ذلك وتردد بصره فى خلق الله انقلب اليه بصره ورجع اليه خاسئاً يعني ذليلا صاغراً - فى قول ابن عباس - وذلك كذلة من طلب شيئاً لم يجده وأبعد عنه { وهو حسير } قال قتادة: معناه كالّ معي، فالحسير الكليل، كما يحسر البعير.
ثم أقسم الله تعالى بقوله { ولقد زينا السماء الدنيا... } لان لام { لقد } هي التي يتلقى بها القسم بأنه زين السماء أي حسنها وجملها أي السماء الدنيا بالمصابيح، يعني الكواكب وسميت النجوم مصابيح لاضاءتها، وكذلك الصبح. والمصباح السراج وواحد المصابيح مصباح. قال قتادة: خلق الله تعالى النجوم لثلاث خصال: احدها زينة السماء. وثانيها رجوماً للشياطين. وثالثها علامات يهتدى بها، فعلى هذا يكون تقديره وجعلنا فيها. وقوله { واعتدنا لهم عذاب السعير } معناه إنا جعلنا الكواكب رجماً للشياطين أعتدنا لهم وادّخرنا لأجلهم عذاب السعير يعني النار المسعّرة، فالسعير النار المسعرة المشتعلة. وقيل: ينفصل من الكواكب شهاب بأن يكون رجوماً للشياطين، فأما الكوكب نفسه، فليس يزول إلى أن يريد الله فناءه، ففي هذه الآيات بيان ما يجب من تعظيم الله تعالى لم يزل ولا يزال، وأن له الملك الكبير، وانه على كل شيء قدير. وفيها بيان ما يجب اعتقاده من أن جميع ما خلقه الله فللابتلاء، بما يصح معه التكليف للعمل الذي يوجب الثواب جزاء على الاحسان مع رحمة من تاب بالغفران وشدة الانتقام ممن أقام على معصيته. وفيها بيان ما يجب اعتقاده من أن جميع ما خلقه الله محكم لا تفاوت فيه، لأنه على ما تقتضيه الحكمة فى المتعة والعبرة وما يصح به الزجر من السيئة. وفيها بيان ما يجب اعتقاده مما اقتضت الحكمة فيه التلاؤم من غير فطور، ولا عدول عن الصواب من أمر السموات والافلاك والنجوم، وما خلق فيها من المصابيح زينة لها ورجوماً للشياطين مع ان عاقبتهم إلى عذاب السعير.