التفاسير

< >
عرض

نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ
١
مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ
٢
وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ
٣
وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ
٤
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ
٥
بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ
٦
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ
٧
فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ
٨
وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ
٩
وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ
١٠
هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ
١١
مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ
١٢
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ
١٣
أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ
١٤
إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
١٥
سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ
١٦
-القلم

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ الكسائي وابو بكر عن عاصم { ن والقلم } بالاخفاء. الباقون بالاظهار. والاظهار اقوى، لان النية بها الوقف إذ هي حرف هجاء. ويجوز ادغام النون الثانية في الواو المقارنة على قياس (من واقد) ولم يقرأ به احد. وقرأ { آن كان ذا مال } بهمزة واحدة ممدودة يعقوب وابو جعفر وابن عامر - وبهمزتين - حمزة وابو بكر، الباقون بهمزة واحدة. واختلفوا في معنى (ن) فى هذا الموضع. فقال قوم: هو اسم من أسماء السورة مثل (حم، والم وص، وق) وما اشبه ذلك. وهو الذى قلنا إنه اقوى الأقوال. وقال ابن عباس - فى رواية عنه - إن النون الحوت الذى عليه الارضون. وفي رواية أخرى عنه إن النون الدواة. وهو قول الحسن وقتادة، وروي في خبر عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: " (نون) لوح من نور" . وقال قوم: تقديره ورب نون والقلم. والقلم آلة مبرية للكتابة. والمقلمة وعاء القلم، وجمعه أقلام، ومنه قلامة الظفر، لانه يؤخذ منه كالأخذ بالقط. وانجرّ القلم بالقسم. وقوله { وما يسطرون } (ما) في موضع جر بالعطف على { والقلم } وكان القسم بالقلم وما يسطر بالقلم، ويجوز ان تكون (ما) مصدرية، وتقديره: ن والقلم وسطركم، فيكون القسم بالكتابة، وعلى الأول بالمكتوب والسطر الكتابة، وهو وضع الحروف على خط مستقيم: سطر يسطر سطراً إذا كتب، وأسطر إذا كتب. وجمع السطر سطور واسطار، قال رؤبة:

اني وأسطار سطرن سطراً

والمسطرة آلة التسطير. وقوله { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } هو المحلوف عليه، وهو جواب القسم، ومعناه لست يا محمد بمجنون بنعمة ربك، كما تقول ما انت بنعمة ربك بجاهل، وجاز تقديم معمولها بعد الباء، لأنها زائدة مؤكدة في ما أنت بنعمة ربك بمجنون، وتقديره انتفى عنك الجنون بنعمة ربك، وإنما قال { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } مع ان الجنة قد تكون نعمة، لأن الجنة لا تكون نعمة من حيث هي جنة، وإنما تكون نعمة من حيث تؤدي إلى مصلحة في الدين. والعافية تكون نعمة من حيث هي عافية، فلهذا حسن ما أنت بنعمة ربك بمجنون والجنون غمور العقل بستره عن الادراك به بما يخرج عن حكم الصحيح، وأصله الستر من قوله { جن عليه الليل } إذا ستره. وقيل إن قوله { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } جواب لقول المشركين حين قالوا { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } فقال الله تعالى { ما أنت بنعمة ربك بمجنون }.
وقوله { وإن لك } خطاب للنبي صلى الله عليه وآله يقول له { وإن لك } يا محمد { لأجراً } أى ثواباً من الله على قيامك بالنبوة وتحملك بأعبائها { غير ممنون } أى غير مقطوع من قولهم منه السير يمنه مناً إذا قطعه، ويقال: ضعفت منتي عن السفر، ورجل منين أى ضعيف، ويجوز ان يكون المراد به إنه غير مكدر بالمن الذى يقطع عن لزوم الشكر، من قولهم: المنة تكدر الصنيعة. وقال الحسن: معناه لا يمن عليك بأجرك. ثم وصف النبي صلى الله عليه وآله فقال { وإنك } يا محمد { لعلى خلق عظيم } قال الحسن: على دين عظيم، وهو الاسلام. وقيل أدب القرآن. وقال المؤرج: معناه على دين عظيم بلغة قريش. وقالت عائشة: كانت خلق النبي صلى الله عليه وآله ما تضمنه العشر الاول من سورة { المؤمنون }، فالخلق المرور فى الفعل على عادة، فالخلق الكريم الصبر على الحق وسعة البذل، وتدبير الأمور على مقتضى العقل. وفي ذلك الرفق والأناة والحلم والمداراة. ومن وصفه الله بأنه على خلق عظيم فليس وراء مدحه مدح. وقيل: وإنك لعلى خلق عظيم بحكم القرآن وكل ذلك عطف على جواب القسم.
وقوله { فستبصر ويبصرون } معناه فستعلم يا محمد يوم القيامة ويعلمون، يعني هؤلاء الكفار الذين يرمونك بالجنون تارة وبالكهانة أخرى { بأيكم المفتون } وقيل فى معناه قولان:
احدهما - باي فرقكم المفتون بما يجري مجرى الجنون.
والثاني - ان يكون معنى { بأيكم المفتون } كما يقال: ليس له معقول أي عقل وتقديره ستعلم ويعلمون بمن منكم الجنون، وقيل: معنى الباء (فى) وكأنه قال فى أيكم الجنون المفتون المبتلى بتخييل الرأي كالمجنون، وذلك كما يبتلى بشدة الهوى المجنون. فيقال: فتن فلان بفلانة، وعلى هذا المعنى قال ابن عباس: بايكم المجنون وقال قتادة: معناه أيكم اولى بالشيطان جعل الباء زائدة كما قال الراجز:

نحن بنو جعدة اصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجوا بالفرج

ومعناه ونرجوا الفرج. وقال مجاهد: معناه أيكم المفتون كأنه قال فى أيكم المفتون. ثم قال { إن ربك يا محمد هو أعلم بمن ضل عن سبيله } الذي هو سبيل الحق أى بمن عدل عنها وجار عن السلوك فيها { وهو أعلم بالمهتدين } أى بمن اهتدى اليها وعمل بموجبها. ثم نهى النبي صلى الله عليه وآله فقال له { فلا تطع المكذبين } بتوحيد الله والجاحدين لنبوتك ولا توافق ما يريدونه. وقوله { ودّوا لو تدهن فيدهنون } قال ابن عباس: معناه ودوا لو تكفر فيكفرون، وهو قول الضحاك، وفى رواية أخرى عن ابن عباس: إن معناه ود هؤلاء الكفار لو تلين في دينك، فيلينون في دينهم، فشبه التليين في الدين بتليين الدهن. وقيل: معناه ودوا لو تركن إلى عبادة الأوثان فيما لونك. والادهان الجريان في ظاهر الحال على المقاربة مع إضمار العداوة. وهو مثل النفاق. ورفع { فيدهنون } بالعطف على قوله { لو تدهن } ولم يجعله جواب التمني.
ثم قال له صلى الله عليه وآله { ولا تطع } يا محمد { كل حلاف } أى من يقسم كثيراً بالكذب { مهين } يعني مكثار في الشر - في قول الحسن وقتادة - والمهين الوضيع باكثاره من القبيح، ومن عرف بأنه يحلف على الكذب، فهو مهين. وقال البلخي: المهين الفاجر - في هذا الموضع -.
وقوله { هماز مشاء بنميم } أى وقاع في الناس بما ليس له أن يعيبهم به. والاصل فيه الدفع بشدة اعتماد، ومنه الهمزة حرف من حروف المعجم، وهي همزة تخرج من الصدر بشدة اعتماد، وقال ابن عباس: الهماز المغتاب. وقوله { مشاء بنميم } فالنميم التضريب بين الناس بنقل الكلام يغلظ لقلوب بعضهم على بعض ومنه النمام المشموم، لأنه يججد ريحه كالمخبر عن نفسه، والنميم والنميمة مصدران. وهو نقل الاحاديث بالتضريب: نم ينم نميماً ونميمة { مناع للخير } أى يمنع خيره ونفعه، فلا ينتفع أحد به { معتد } قال قتادة: معناه متجاوز للحد فى المعاملة { أثيم } أي آثم فهو (فعيل) بمعنى (فاعل) وهو الذي فعل ما يأثم به { عتل بعد ذلك } فالعتل الجافي الغليظ. ومنه قوله
{ خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم } أي اذهبوا به بعنف وغلظة يقال: عتله يعتله ويعتله عتلا إذا زعزعه بغلظ وجفاء. وقال ذو الاصبع:

والدهر يغدو معتلا جذعاً

وقيل: العتل الفاحش اللئيم. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله ذلك. و "الزنيم" الدعي وهو الملصق بالقوم، وليس منهم. وأصله الزنمة وهي الهينة التي تتحرك تحت حلق الجدى وقال حسان:

وانت زنيم نيط فى آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد

و (بعد) ها هنا معناه (مع) وقال آخر

زنيم ليس يعرف من أبوه بغي الأم ذو حسب لئيم

ويقال للتيس: زنيم له زنمتان، والزنيم الدعي - عن ابن عباس - وقيل: هو الذي يعرف بالشر، كما تعرف الشاة بزنمتها.
وقوله { أن كان ذا مال وبنين } من قرأ على الاستفهام، وهو حمزة وابو بكر عن عاصم أراد، ألان كان ذا مال وبنين؟! على وجه التوبيخ له { إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } ويحتمل ان يكون المراد لأن كان ذا مال وبنين يطاع. وقيل: كان له ألف دينار وعشرة بنين { إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } أي أحاديث الأولين التي سطرت وكتبت لا أصل لها وواحد الاساطير أسطورة - فى قول الزجاج. وقرأ حمزة وابو بكر عن عاصم { أأن كان ذا مال وبنين } بهمزتين. وقرأ ابن عامر بهمزة ممدودة. الباقون بهمزة واحدة. وقد فسرناه. فقال الله تعالى مهدداً له ومتوعداً { سنسمه على الخرطوم } أي سنعلم على أنفه علامة يعرف بها الملائكة انه من أهل النار، فالسمة العلامة المفرقة بالرؤية بين الأشياء المختلطة، كسمة الخيل إذا أرسلت فى المروج، وسمه يسمه وسماً وسمة، فهو موسوم. والخرطوم الانف، وهو الناتئ فى الوجه الذي يقع به الشم. ومنه خرطوم الفيل، وخرطمه إذا قطع أنفه وجعله خراطيم. وقال ابن عباس: معنى { سنسمه على الخرطوم } نحطمه بالسيف فى القتال، كما فعل بهم يوم بدر. وقال قتادة: معناه سنعلمه بشيء يبقى على الابد. وقال بعضهم معناه: سنسود وجهه فعبر عن الوجه بالخرطوم، لانه فيه.
وقيل: نزلت هذه الآيات فى الوليد بن المغيرة المخزومي، وقيل: نزلت فى الأخنس بن شريق الثقفي، كانت به زنمة يعرف بها - ذكره ابن عباس -