التفاسير

< >
عرض

أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ
٤٦
أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ
٤٧
فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ
٤٨
لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ
٤٩
فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ
٥٠
وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ
٥١
وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ
٥٢
-القلم

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ نافع وحده { يزلقونك } بفتح الياء من زلقت. الباقون بضمها من أزلقت، وهما لغتان: زلقت، وأزلقت. قال الفراء: يقولون: زلقت شعره وأزلقته إذا حلقته. والمعنى ليرمون بك ويلقونك.
يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله على وجه التوبيخ للكفار { أم تسألهم } اي هل تسألهم { أجراً } يعني ثواباً وجزاء على دعائك إياهم إلى الله وتخويفك إياهم من المعاصي وأمرك إياهم بطاعة الله { فهم من مغرم } أي هم من لزوم ذلك { مثقلون } أي محملون، فالأجر القسط من الخير الذي يستحق بالعمل. والمغرم ما يلزم من الدين الذي يلج فى اقتضائه. وأصله اللزوم بالالحاح، ومنه قوله
{ إن عذابها كان غراماً } أي لازماً ملحاً قال الشاعر:

يوم الجفار ويوم النسار كانا عذاباً وكانا غراما

وقولهم دفع مغرم أي دفع الاقتضاء بالالحاح، والغرم ما يلزم بالاقتضاء على وجه الالحاح فقط. والمثقل المحمل للثقل وهو ما فيه مشقة على النفس كالمشقة بالحمل الثقيل على الظهر، يقال: هو مثقل بالدين، ومثقل بالعيال ومثقل بما عليه من الحقوق اللازمة والأمور الواجبة.
وقوله { أم عندهم الغيب فهم يكتبون } معناه هل عندهم علم أختصوا به لا يعلمه غيرهم، فهم يكتبونه ويتوارثونه بصحة ما يدعونه فينبغي ان يبرزوه.
ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله { فاصبر لحكم ربك } الذي حكم عليك بالصبر وأمهلهم إلى وقت آجالهم { ولا تكن كصاحب الحوت } يعني ولا تكن فى استعجال عقابهم مثل يونس حين طلب من الله تقديم عقاب قومه وإهلاكهم، ولا تخرج من بين ظهراني قومك قبل ان يأذن الله لك فى ذلك كما فعل يونس { إذ نادى وهو مكظوم } قال ابن عباس ومجاهد: معناه مغموم، كأن الغم قد حبسه عن الانبساط فى أمره، والمكظوم المحبوس عن التصرف في الامور، ومنه كظمت رأس القربة إذا شددت رأسها، وكظم غيظه إذا حبسه بقطعه عما يدعو اليه. وقال قتادة: لا تكن مثله فى العجلة والمغاضبة، حتى نادى يونس وهو ممنوع بقعطه عن شفاء غيظه، والذى نادى به { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } فجعله الله من الصالحين، بما بين لعباده من صلاحه، ويجوز بما لطف له حتى صلح فى كل ما امره الله به. وفي الكلام حذف، وتقديره: ولا تكن كصاحب الحوت فى استعجاله الخروج من بين قومه انتظاراً لنزول العذاب بهم، فلما رفع الله عنهم العذاب مضى على وجهه، فعاتبه على ذلك وحبسه فى بطن الحوت، فلجأ إلى الله تعالى. وقوله { إذ نادى } متعلق بتقدير: إذكر يا محمد حاله إذ نادى. ولا يجوز ان يكون متعلقاً بقوله { ولا تكن كصاحب الحوت } حين نادى، لان الله لا ينهى نبيه أن يقول مثل ما قال يونس من الدعاء.
وقوله { لولا أن تداركه نعمة من ربه } معناه لولا أن الله رحم يونس ولحقته نعمة من جهته { لنبذ بالعراء } أي لطرح بالصحراء الواسعة { وهو مذموم } قالوا هي الارض العارية من النبات والأبنية وكل حال ساترة. وقال الفراء: الفضاء من الأرض العاري، قال الشاعر وهو قيس بن جعدة:

ورفعت رجلاً لا أخاف عثارها ونبذت بالبلد العراء ثيابي

وقوله { وهو مذموم } قال ابن عباس: وهو مليم أي أتى بما يلام عليه، ولكن الله تعالى تداركه برحمة من عنده، فطرح بالعراء وهو غير مذموم. وقوله { فاجتباه ربه فجعله من الصالحين } معناه اختار الله يونساً فجعله من جملة الصالحين المطيعين لله التاركين لمعاصيه.
وقوله { وإن يكاد الذين كفروا } قال النحويون: { إن } هذه المخففة عن الثقيلة، لانها لو كانت للشرط لجزم (يكد) وتقديره، وإن يكاد الذين كفروا أي قارب الذين كفروا { ليزلقونك بأبصارهم } أي يرمون بك عند نظرهم غيظاً عليك قال الشاعر:

يتلاحظون إذا التقوا في محفل نظراً يزيل مواقع الاقدام

ويكاد يصرعه بحدة نظره. وقيل كان الرجل إذا أراد ان يصيب صاحبه بالعين تجوّع ثلاثة أيام ثم نظره فيصرعه بذلك، والمفسرون كلهم على ان المراد بازلاقهم له بأبصارهم من الاصابة بالعين. وقال الجبائي منكراً لذلك: إن هذا ليس بصحيح، لان هذا من نظر العداوة وذلك عندهم من نظر المحبة على أن إصابة العين ليس بصحيح. قال الرماني: وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لانه لا يمتنع أن يكون الله تعالى أجرى العادة بصحة ذلك لضرب من المصلحة، فلا وجه للامتناع من ذلك، وعليه اجماع المفسرين، وهو المعروف بين العقلاء والمسلمين وغيرهم، فينبغي ان يكون مجوّزاً. وروي أن اسماء بنت عميس قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله إن بني جعفر يصيبهم العين، فأسترقي لهم، قال: نعم، فلو كان شيء سابق القدر سبقة العين.
وقيل: إنهم كانوا يقولون ما اظهر حججه، وما افصح كلامه، وما ابلغ خطابه، يريدون بذلك ان يعينوه به، قال البلخي: المعنى إنهم كانوا ينظرون اليه نظر عداوة وتوعد، ونظر من يهم به، كما يقول القائل: يكاد يصرعني بشدة نظره قال الشاعر:

يتعارضون إذا التقوا فى موطن نظراً يزيل مواضع الاقدام

أي ينظر بعضهم إلى بعض نظراً شديداً بالبغضاء والعداوة، ونظر يزيل الاقدام عن مواضعها أي يكاد يزيل.
وقوله { لما سمعوا الذكر } يعني القرآن { ويقولون } مع ذلك { إنه لمجنون } قد غلب على عقله، قالوا ذلك فيه مع علمهم بوقارة عقله تكذباً عليه ومعاندة له، فقال الله تعالى رداً عليهم { وما هو } أي ليس هذا القرآن { إلا ذكر للعالمين } أي شرف إلى ان تقوم الساعة.