التفاسير

< >
عرض

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ
٢٥
وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ
٢٦
يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ
٢٧
مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ
٢٨
هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ
٢٩
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ
٣٠
ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ
٣١
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ
٣٢
إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ
٣٣
وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ
٣٤
فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ
٣٥
وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ
٣٦
لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ
٣٧
-الحاقة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

لما حكى الله تعالى قصة أهل الجنة وشرح أحوالهم، حكى - ها هنا - قصة أهل النار وشرح أحوالهم، فقال { وأما من أوتي كتابه } يعني من أعطي كتابه الذي فيه أعماله مثبتة { بشماله } وإنما يعطي الله هؤلاء كتابهم بشمالهم، لانه جعل ذلك إمارة للملائكة والخلائق على أن صاحبه من أهل النار، فهو إذا اعطي كتابه في شماله يقول عند ذلك متمنياً متحسراً على ما فرط { يا ليتني لم أوت كتابيه.... } أى ليتني لم اعط هذا الكتاب، والتمني هو قول القائل لما كان: ليته لم يكن، ولما لم يكن: ليته كان: فهو من صفات الكلام. وقال قوم: هو معنى في النفس فهؤلاء الذين يعطون كتابهم بشمالهم يتمنون أن لم يعطوا كتابهم أصلا، ولم يعلموا ما لهم وما عليهم، لان اعمالهم كلها معاصي، وهم يستحقون العقاب لا غير فلذلك يتمنون أن لا يعرفوا حسابهم، والحساب اخراج الكثير مما تضمن معنى العدة، وهو محتمل الزيادة والنقصان، والتمني في قول الكفار معناه التحسر والتندم وإن خرج مخرج التمني.
ثم حكى تعالى أنهم لعظم ما دفعوا اليه من العقاب والاهوال ينتدمون ويتحسرون ويتمنون أن لو كانت القاضية بدلا مما هم فيه. قال الفراء: معناه ليت الموتة الأولى التي متناها لم نجئ بعدها. والقاضية الفاصلة بالامانة، يقال: قضى فلان إذا مات، واصله فصل الأمر، ومنه قضية الحاكم، وجمعها قضايا، ومنه قضاء الله وهو الاخبار بأنه يكون على القطع، والهاء في { يا ليتها } كناية عن الحالة التي هم فيها، وقيل كناية عن الموتة. قال قتادة: يعني الموت ولم يكن عنده في الدنيا شيء اكره منه.
ثم حكى انه يقول { ما أغنى عني ماليه } ومعناه ما كفاني في صرف المكروه ولا صرف عني شيئاً من عقاب الله تعالى يقال: أغنى يغني غنى واغناء، قال ابن زيد: معناه ما نفعني ملكي الذى كان لي في الدنيا.
وقوله { هلك عني سلطانيه } قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: هلك عني حجتي. وقال الحسن: قد جعل الله لكل إنسان سلطاناً على نفسه ودينه وعيشه. وقال قوم: معناه هلك عني تسلطي وأمري ونهيي في دار الدنيا على ما كنت مسلطاً عليه لا أمر لي ولا نهي، فالهلاك ذهاب الشيء بحيث لا يقع عليه احساس، هلك يهلك هلوكاً، فهو هالك، قال الزجاج: والوجه أن يوقف على هذه الهاآت، ولا توصل، لانها ادخلت للوقف، وقد حذفها قوم. وفي ذلك مخالفة المصحف، فلا احب حذفها. قال: ولا احب ان اصل وأثبت الهاء، فان هذه رؤس الآي فالوجه الوقف عندها، وكذلك قوله { وما أدراك ما هيه } وقد وصل بلاهاء الكسائي. الباقون بالهاء في الحالين.
ثم حكى ما يقول الله تعالى للملائكة ويأمرهم به، فانه يقول لهم { خذوه } يعني الكفار الذى أعطي كتابه بشماله { فغلوه } أى اوثقوه بالغل، وهو أن يشد احدى يديه او رجليه إلى عنقه بجامعة { ثم الجحيم صلوه } فالجحيم هي النار الغليظة لأن النار قد تكون ضعيفة كنار السراج ونار القدح، وقد تكون قوية كنار الحريق فلا يقال لنار السراج: جحيم، وهو اسم علم على نار جهنم التي أعدها الله للكفار والعصاة، والتصلية إلزام النار، ومنه الاصطلاء وهو القعود عند النار للدفا، واصله لزوم الأمر، فمنه المصلي الذي فى أثر السابق ومنه قول الشاعر:

وصلى على دنها وارتسم

أي لزم الدعاء لهاء. وقوله { ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه } تقديره: ثم اسلكوه فى سلسلة طولها سبعون ذراعاً فاسلكوه فيها، فالسلسلة حلق منتظمة كل واحدة منها فى الأخرى، ومنه يقال: سلسل كلامه إذا عقده شيئاً بعد شيء، وتسلسل إذا استمر شيئاً قبل شيء على الولاء والانتظام. والذرع اخذ قدر الذراع مرة او أكثر، ذرع الرجل الثوب يذرعه ذرعاً، فهو ذرّاع، والثوب مذروع، مأخوذ من الذراع وهو العضو الذي يكون فى طرف الكف من الانسان. وقيل: اسلكوه في السلسلة، لأنه يأخذ عنقه فيها، ثم يجرّ بها. وقال الضحاك: إنها تدخل في فيه وتخرج من دبره. وقيل: المعنى ثم اسلك السلسلة فيه فقلب كما يقال: ادخلت القلنسوة في رأسي، وإنما أدخل رأسه فيها، وكما قال الاعشي:

[غضوب من السوط زيّافة] إذا ما أرتدى بالسراه الاكم

وإنما السراة ترتدي بالاكم، ولكنه قلب، فهو يجري مجرى التقديم والتأخير اتساعاً في اللغة من غير اخلال بالمعنى. ويقولون أيضاً: ادخلت الخاتم في يدي، والخف في رجلي، وإنما تدخل اليد والرجل في الخاتم والخف، فقلب.
ثم بين تعالى لم فعل به ذلك؟ وعلى أي شيء استحقه، فقال { إنه كان لا يؤمن بالله }أى لم يكن يوحد الله في دار التكليف ولم يصدق بالله { العظيم } في صفاته التي لا يشاركه فيها غيره { ولا يحض على طعام المسكين } أى لا يحث على ذلك مما يجب عليه من الزكاة والكفارات والنذور.
ثم قال تعالى { فليس له } يعني للكافر { اليوم ها هنا } يعني يوم القيامة { حميم } وهو القريب الذى يحمي لغضب صاحبه { ولا طعام الأمن غسلين } يعنى من صديد أهل النار وما يجري منهم، فالطعام هو ما هيئ للأكل، فلذلك لا يسمى التراب طعاماً للانسان، والخشب طعام الأرضة، وليس من طعام أكثر الحيوان. فلما هيئ الصديد لأكل أهل النار كان ذلك طعاماً لهم. والغسلين هو الصديد الذى يتغسل بسيلانه من ابدان أهل النار. ووزنه (فعلين) من الغسل وقال ابن عباس: هو صديد أهل النار. وقيل: اهل النار طبقات منهم من طعامه الضريع، ومنهم من طعامه الغسلين، لانه قال في موضع آخر
{ ليس لهم طعام إلا من ضريع } وقال قطرب: يجوز أن يكون الضريع هو الغسلين، فعبر عنه بعبارتين، وقال قوم: يجوز ان يكون المراد ليس لهم طعام إلا من ضريع ولا شراب الا من غسلين، فسماه طعاماً كما قال الشاعر:

علفتها تبناً وماء بارداً

ثم قال تعالى { لا يأكله } أي لا يأكل هذا الغسلين { إلا الخاطئون } وهم الجائرون عن طريق الحق عامدين. والفرق بين الخاطئ والمخطئ أن المخطئ قد يكون من غير تعمد لما وقع به من ترك اصابة المطلوب، وخطئ يخطىء خطأ فهو خاطئ قال امرؤ القيس:

يا لهف نفسي إذ خطئن كاهلا القائلين الملك الحلا حلا

فهؤلاء الكفار قد جاروا عن طريق الحق وضلوا عن الصراط المستقيم وتبعوا الضلال فى الدين.