التفاسير

< >
عرض

فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ
٣٨
وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ
٣٩
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
٤٠
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ
٤١
وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
٤٢
تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٤٣
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ
٤٤
لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ
٤٥
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ
٤٦
فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ
٤٧
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ
٤٨
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ
٤٩
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٥٠
وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ
٥١
فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ
٥٢
-الحاقة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ { قليلاً ما يؤمنون، ويذكرون } بالياء فيهما مكي شامي ويعقوب، وسهل على الخبر عن الكفار. الباقون بالتاء على الخطاب لهم أي قل لهم.
وقيل في قوله { فلا أقسم } ثلاثة اقوال:
احدها - قال الفراء: انه ردّ لكلام قائل، فكأنه قال: ليس الأمر على ما يقال أقسم إنه { لقول رسول كريم }.
والثاني - قال قوم (لا) صلة مؤكدة وتقديره فأقسم.
الثالث - قال قوم: إنها نفي للقسم، ومعناه لا يحتاج إلى القسم لوضوح الحق في انه { لقول رسول كريم } وفى هذا الوجه يقع جوابه كجواب غيره من القسم. وقيل: هو كقول القائل: لا والله لأفعل ذاك، ولا والله لأفعلن ذاك. وقال قتادة: أقسم تعالى بالاشياء كلها ما يرى وما لا يرى، وقال الجبائي: إنما أراد إنه لا يقسم بالاشياء المخلوقات ما يرى وما لا يرى، وإنما يقسم بربها، لأن القسم لا يجوز إلا بالله. وقوله { إنه لقول رسول كَريم } جواب القسم، قال الجبائي: هو قول الله على الحقيقة، وإنما الملك وجبرائيل والرسول يحكون ذلك، وإنما أسنده إليهم من حيث أن ما يسمع منهم كلامهم ولما كَان حكاية كلام الله قيل: هو كلام الله على الحقيقة فى العرف، وقرئ { إنه من قول رسول كريم } جواب القسم. وقال الحسن: فالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله الذى أتى بهذا القرآن. وقال غيره: هو جبرائيل عليه السلام والاول اظهر، والكريم الخليق بالخير الواسع من قبله، يقال: كرم يكرم كرماً فهو كريم، وضده لؤم يلؤم لؤماً، فهو لئيم.
ولما اقسم تعالى أن هذا القرآن هو قول رسول كريم نفى بعده أن يكون قول شاعر فقال { وما هو بقول شاعر } فالشاعر هو المبتدئ بانشاء الشعر، ولا يكون حاكي الشعر شاعراً، كما يكون حاكي الكلام متكلماً، لانه يحكي شعراً انشأه غيره، وإنما نزه الله تعالى نبيه عن الشعر ومنعه منه، لان الغالب من حال الشاعر أنه يدعو إلى الهوى، والرسول بأني بالحكمة التي يدعو اليها العقل للحاجة إلى العمل عليها والاهتداء بها، مع انه بين أن القرآن صنف من الكلام خارج عن الانواع المعتادة، وذلك أدل على إعجازه لبعده عما جرت به العادة فى تأليف الكلام قال قتادة: طهر الله نبيه من الشعر والكهانة وعصمه منهما.
وقوله تعالى { قليلاً ما تؤمنون } معناه قليلا بما ذكرناه إيمانكم (وما) مصدرية وقال قوم (ما) صلة، وتقديره قليلا تؤمنون بما ذكرناه أي لستم تؤمنون به.
وقوله { ولا بقول كاهن } فالكاهن هو الذي يسجع فى كلامه على ضرب من التكلف لتشاكل المقاطع، وهو ضد ما توجبه الحكمة فى الكلام، لانها تقتضي أن يتبع اللفظ المعنى، لانه إنما يحتاج إلى الكلام للبيان به عن المعنى، وإنما البلاغة فى الفواصل التي يتبع اللفظ فيها المعنى، فتشاكل المقاطع على ثلاثة أضرب: فواصل بلاغة، وسجع كهانة، وقواف تتبع الزنة، والكاهن الذي يزعم ان له خدمة من الجن تأتيه بضرب من الوحي. وقوله { قليلا ما تذكرون } أي تتفكرون قليلا فيما ذكرناه، فلذلك لا تعلمون صحة ما قلناه، ولو انعمتم النظر لعلمتم صحته.
ثم قال { تنزيل من رب العالمين } أي هو تنزيل نزله الله رب العالمين على رسوله.
وقوله { ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل } اخبار من الله تعالى على وجه القسم أن هذا الرسول الذي حكى بأن القرآن نزل عليه من عند الله وهو محمد صلى الله عليه وآله لو تقول على الله فى بعض كلامه، ومعناه لو كذب علينا فى بعض ما لم يؤمر به، فالتقول تكلف القول من غير رجوع إلى حق، والتقول والتكذب والتزيد بمعنى واحد { لأخذنا منه باليمين } جواب القسم، ومعناه أحد وجهين:
احدهما - لاخذنا بيده التي هي اليمين على وجه الاذلال، كما يقول السلطان يا غلام خذ بيده فانه على وجه الاهانة، قال الحسن: معناه لقطعنا يده اليمين.
والثاني - لاخذنا منه بالقوة كما قال الشاعر:

إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

وقوله { لقطعنا منه الوتين } قال ابن عباس وسعيد بن جبير: الوتين نياط القلب. وقال مجاهد وقتادة والضحاك: هو عرق فى القلب متصل بالظهر إذا قطع مات الانسان، قال الشماخ بن ضرار الثعلبي:

إذا بلغتني وحملت رحلي عرابة فأشر فى ندم الوتين

وقوله { فما منكم من أحد عنه حاجزين } معناه ليس أحد يمنع غيره من عقاب الله بأن يكون حائلا بينه وبينه، فالحاجز هو الحائل بين الشيئين. وإنما قال { حاجزين } بلفظ الجمع، لان (أحداً) يراد به الجمع وإن كان بصيغة الواحد. ثم قال { وإنه لتذكرة للمتقين } قسم من الله تعالى أن هذا القرآن تذكرة وعظة للمتقين، وهو قول قتادة، وإنما اضافه إلى المتقين، لانهم المنتفعون به، فالتذكرة العلامة التي يذكر بها المعنى، ذكره تذكرة، فهو مذكر، كقولك جزاه تجزية وجزاه تجزية، فالمتقى يتذكر القرآن بأن يعمل عليه في أمر دينه في اعتقاد او عمل به فيتميز الجائز مما لا يجوز، والواجب مما ليس بواجب، والصحيح مما لا يصح.
وقوله { وإنا لنعلم أن منكم مكذبين } عطف على جواب القسم، ومعناه التحذير من التكذيب بالحق وأنه ينبغي أن يتذكر أن الله تعالى يعلمه ويجازي عليه. وقوله { وإنه لحسرة على الكافرين } معناه إن هذا القرآن حسرة على الكافرين يوم القيامة حيث لم يعملوا به في الدنيا، فالحسرة الغم من أجل ما انحسر وقته كيف فات العمل الذي كان ينبغي فيه أن يفعل، فيحسر السرور عن النفس إلى الغم بانحساره. وقيل: إن التكذيب به حسرة على الكافرين.
ثم اقسم تعالى فقال { وإنه } يعني القرآن الذي انزله والاخبار بما اخبر به وذكره { لحق اليقين } ومعناه الحق اليقين، وإنما اضافه إلى نفسه، والحق هو اليقين، كما قيل مسجد الجامع ودار الآخرة وبارحة الاولى ويوم الخميس وما اشبه ذلك، فيضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلف لفظه كما اختلف الحق واليقين. والحق هو الذي معتقده على ما اعتقده، واليقين هو الذي لا شبهة فيه.
ثم قال لنبيه { فسبح } يا محمد والمراد به جميع المكلفين ومعناه نزه الله تعالى { باسم ربك العظيم } ومعناه نزهه عما لا يجوز عليه من صفات خلقه و { العظيم } هو الجليل الذي يصغر شأن غيره في شأنه بما يستحق من أوصافه. وروي انه لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وآله:
"اجعلوها في ركوعكم" .