التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ
١٨٩
فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
١٩٠
-الأعراف

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ اهل المدينة وابو بكر وعكرمة والاعرج "شركاً" بكسر الشين منوناً الباقون بضم الشين على الجمع. وقرا ابن يعمر "فمرت" بتخفيف الراء وهو شاذ.
قال ابو علي الفارسي: من قرا "شركاً" بكسر الشين منوناً - حذف المضاف كأنه اراد جعلا له ذا شرك اي ذا نصيب او ذوي شرك، ويكون كقول من جمع فالقراءتان يؤلان إلى معنى واحد. والضمير في قوله { له } يعود إلى اسم الله كأنه قال جعلا لله شركاء.
وقال ابو الحسن: كان ينبغي لمن قرأ - بكسر الشين - أن يقول جعلا لغيره شركا. وقول من قرا { جعلا له شركاء } يجوز ان يريد جعلا لغيره فيه شركاء, فحذف المضاف، فالضمير على هذا ايضاً في { له } راجع إلى الله تعالى. وقال ابو علي يجوز ان يكون الكلام على ظاهره، ولا يقدر حذف المضاف في قوله تعالى { جعلا له } وانت تريد لغيره ولكن يقدر حذف المضاف الى شرك فيكون المعنى جعلا له ذوي شرك، واذا جعلا له ذوي شرك كان في المعنى مثل لغيره شركاً، فلا يحتاج إلى تقدير جعلا لغيره شركاً.
قال ابو علي: ويجوز ان يكون قوله تعالى { جعلا له شركاء } جعل احدهما له شركاء او ذوي شرك فحذف المضاف واقام المضاف اليه مقامه كما حذف من قوله تعالى { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } والمعنى على رجل واحد من احد رجلي القريتين. وحكى الازهري ان الشرك والشريك واحد ويكون بمعنى النصيب.
قوله { هو الذي } كناية عن الله تعالى وإخبار عن الذي خلق البشر من نفس واحدة وهي آدم وخلق منها زوجها يعني حواء.
وقيل: انه خلقها من ضلع من اضلاعه وبين انه إنما خلقها ليسكن اليها آدم ويأنس بها.
وقوله { فلما تغشاها } معناه لما وطأها وجامعها. وقيل: تغشاها بدنوه بها لقضاء حاجة، فقضى حاجته منها { حملت } ففي الكلام حذف { حملت حملاً خفيفاً } لأن الحمل اول ما يكون خفيفاً، لانه الماء الذي يحصل في رحمها. والحمل - فتح الحاء ما كان في الجوف وكذلك ما كان على نخلة او شجرة فهو مفتوح. - وبكسر الحاء - ما كان من الثقل على الظهر.
وقوله تعالى { فمرت به } معناه استمرت به وقامت وقعدت وقيل: شكت له وآلمها ثقلها. ومن خفف الراء اراد شكت ومارت فلم تدر هي حامل ام لا. وقال الحسن أغلاماً ام جارية.
وقوله تعالى { فلما اثقلت } اي صارت ذات ثقل كما يقال اثمر اي صار ذا ثمر، وذلك قرب ولادتها. { دعوا الله ربهما } يعني آدم وحواء دعوا الله اي سألاه { لئن آتيتنا صالحاً } اي لو أعطيتنا ولداً صالحاً. قال الجبائي: صالحاً يعني سليماً من الآفات صحيح الحواس والآلات. وقال غيره: معنى صالحاً مطيعاً فاعلاً للخير { لنكونن من الشاكرين } اي نكونن معترفين نعمك علينا نعمة بعد نعمة تسديها الينا.
وقوله عز وجل { فلما آتاهم صالحاً } يعني فلما آتى الله آدم وحواء ولداً صالحاً جعلا له شركاء، واختلفوا في الكناية إلى من ترجع في قوله { جعلا }:
فقال قوم هي راجعة إلى الذكور والاناث من اولادهما او إلى جنسي من اشرك من نسلهما، وإن كانت الادلة تتعلق بهما. ويكون تقدير الكلام فلما آتى الله آدم وحواء الولد الصالح الذي تمنياه وطلباه جعل كفار اولادهما ذلك مضافاً إلى غير الله. ويقوي ذلك قوله تعالى { فتعالى الله عما يشركون } فلو كانت الكناية عن آدم وحواء لقال عما يشركان. وإنما اراد تعالى الله عما يشرك هذان النوعان او الجنسان وجمعه على المعنى. وقد ينتقل الفصيح من خطاب إلى خطاب غيره. ومن كناية إلى غيرها. قال الله تعالى
{ { إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً لتؤمنوا بالله ورسوله } فانصرف من مخاطبة الرسول إلى المرسل اليهم ثم قال { { وتعزروه وتوقروه } يعني الرسول ثم قال { وتسبحوه } يعني الله تعالى، قال الهذلي:

يا لهف نفسي كان جده خالد وبياض وجهك للتراب الأعفر

ولم يقل وبياض وجهه. وقال كثير:

اسيء بنا او احسني لا ملومة لدنيا ولا مقلية إن تقلت

فخاطبها ثم ترك الخطاب. وقال الاخر:

فدى لك ناقتي وجميع اهلي وما لي إنه منه آتاني

ولم يقل منك اتاني. وليس لاحد ان يقول كيف يكني عمن لم يجر له ذكر، وذلك ان لنا عنه جوابين:
احدهما - انه يجوز ذلك إذا دل الدليل عليه، كما قال
{ { حتى توارت بالحجاب } ولم يتقدم للشمس ذكر. وقال الشاعر:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

ولم يتقدم للنفس ذكر.
والجواب الثاني - انه تقدم ذكر ولد آدم في قوله { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } واراد بذلك جميع ولد آدم، وتقدم ايضاً في قوله { فلما آتاهما صالحاً } لان معناه ولداً صالحاً، ويريد بذلك الجنس. وإن كان لفظه واحداً، وإذا تقدم مذكوران وعقبا بأمر لا يليق بأحدهما وجب ان يضاف إلى الاخر، والشرك لا يليق بآدم، لأنه نبي نزهه الله عن ذلك، وعن جميع القبائح، ويلق بكفار ولده ونسله فوجب ان نرده اليهم.
وقال الزجاج وإبن الاخشاد: جعل من كل نفس زوجها كأنه قال: وجعل من النفس زوجها على طريق الجنس واضمر لتقدم الذكر.
وقال ابو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني: الكناية في جميع ذلك غير متعلقة بآدم وحواء وجعل الهاء في { تغشاها } والكناية في { دعوا الله ربهما، وآتاهما صالحاً } راجعين إلى من اشرك ولم يتعلق بآدم وحواء إلا قوله: { خلقكم من نفس واحدة } والاشارة بذلك إلى جميع الخلق. وكذلك قوله { وجعل منها زوجها } ثم خص بها بعضهم، كما قال
{ { هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى اذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة } فخاطب الجماعة ثم خص راكب البحر، فكذلك اخبر الله تعالى عن جملة امر البشر بأنهم مخلوقون من نفس واحدة وزوجها وهما آدم وحواء ثم عاد الذكر إلى الذي سأل الله تعالى ما سأل فلما اعطاه إياه ادعى له الشركاء في عطيته.
وقال قوم: يجوز ان يكون عنى بقوله { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } المشركين خصوصاً، إذ كان كل بني آدم مخلوقون من نفس واحدة كأنه قال: خلق كل احد من نفس واحدة وخلق من النفس الواحدة زوجها، ومثله كثير نحو قوله عز وجل
{ { فاجلدوهم ثمانين جلدة } والمعنى فاجلدوا كل واحد منهم. وقال قوم: ان الهاء في قوله: { جعلا له شركاء } راجعة إلى الولد لا إلى الله ويكون المعنى انهما طلبا من الله تعالى امثالا للولد الصالح فاشركا بين الطلبتين، كما يقول القائل: طلبت مني درهما فلما اعطيتكه شركته بآخر أي طلبت آخر مضافاً اليه، فعلى هذا يجوز أن تكون الكناية من اول الكلام إلى آخره راجعة إلى آدم وحواء.
فان قيل: فعلى هذا فأي تعلق لقوله { فتعالى الله عما يشركون } بذلك. وكيف ينزه نفسه عن ان يطلب منه ولد آخر؟!
قلنا: لم ينزه نفسه عن ذلك وإنما نزهها عن الاشراك به، ليس يمتنع ان يقطع هذا الكلام عن حكم الاول، لانه قال بعد ذلك { ايشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون } فنزه نفسه عن هذا الشرك دون ما تقدم.
فأما الخبر المدعى في هذا الباب، فلا يلتفت اليه، لأن الاخبار تبنى على ادلة العقول، فاذا علمنا بدليل العقل ان الأنبياء لا يجوز عليهم المعاصي تأولنا كل خبر يتضمن خلافه او ابطلناه، كما نفعل ذلك بأخبار الجبر والتشبيه. على ان هذا الخبر مطعون في سنده، لأنه يرويه قتادة عن الحسن عن سمرة، وهو مرسل، لأن الحسن لم يسمع من سمرة شيئاً - في قول البغداديين - ولأن الحسن قال بخلاف ذلك فيما روى عنه عروة - في قوله عز وجل { فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما } قال هم المشركون. ويعارض ذلك ما روي عن سعيد بن جبير وعكرمة والحسن وغيرهم: من ان الشرك غير منسوب إلى آدم وزوجته، وأن المراد به غيرهما على ان في الخبر اشركا إبليس اللعين فيما ولد لهما بأن سمياه عبد الحرث، والاية تقضي انهم اشركوا الاصنام التي لا تخلق وهي تخلق، والتي لا تستطيع ضرّاً ولا نفعاً وليس لابليس في الآية ذكر، ولو كان له ذكر لقال أتشركون من. وقال في آخر القصة { ألهم أرجل يمشون بها... } وكذا، ولا يليق ذلك بابليس. ويقوي ان الاية مصروفة عن ادم إلى ولده انه قال { فلما تغشاها } ولو كان منسوقاً على النفس الواحدة لقال فلما تغشتها، لان ذلك هو الأجود والأفصح وإن جاز خلافه. وحكى البلخي عن قوم انهم قالوا: لو صح الخبر لم يكن في ذلك الا إشراكاً في التسمية، وليس ذلك بكفر ولا معصية كبيرة، وذهب اليه كثير من المفسرين واختاره الطبري.