التفاسير

< >
عرض

يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ
١١
وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ
١٢
وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُؤْوِيهِ
١٣
وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ
١٤
كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ
١٥
نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ
١٦
تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ
١٧
وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ
١٨
إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً
١٩
إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً
٢٠
وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً
٢١
إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ
٢٢
ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ
٢٣
وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ
٢٤
لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ
٢٥
-المعارج

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ { نزاعة } - بالنصب - حفص عن عاصم على الحال. الباقون بالضم جعلوه بدلا من (لظى) و (لظى) اسم من اسماء جهنم معرفة، و { نزاعة } نكرة فلذلك نصبه حفص على الحال ومن جعلها بدلا من (لظى) وتقديره كلا إنها لظى، كلا إنها نزاعة للشوى، وضعف أبو علي نصبه على الحال، قال: لانه ليس في الكلام ما يعمل فى الحال، ولظى اسم معرفة لا يمكن أن يكون بمعنى التلظي، فلا يعمل فيه الاعلى وجه ضعيف بأن يقال: مع انها معرفة فمعناها بمعنى التلظي. قال والاجود أن ينصب بفعل آخر، وتقديره أعني نزاعة.
لما وصف الله تعالى القيامة وأهوالها، واخبر أن الحميم لا يسأل حمياً لشغله بنفسه، قال { يبصرونهم } قال ابن عباس وقتادة: يعرف الكفار بعضهم بعضاً، ثم يفر بعضهم عن بعض، وقال مجاهد: يعرفهم المؤمنون، وقال قوم: يعرف اتباع الضلال رؤساءهم، وقول ابن عباس أظهر، لأنه عقيب ذكر الكفار. وقال هو كناية ينبغي ان يرجع اليهم.
وقوله { يودّ المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه } أى يتمنى العاصي، فالمودة مشتركة بين التمنى وبين المحبة تقول: وددت الشيء إذا تمنيته ووددته إذا احببته أود فيهما جميعاً، وصفة ودود من المحبة. وقوله { لو يفتدي }، فالافتداء افتداء الضرر عن الشيء يبدل منه، فهؤلاء تمنوا سلامتهم من العذاب النازل بهم باسلام كل كريم عليهم. والفرق بين { يود لو يفتدي } و { يود أن يفتدي } أن (لو) تدل على التمني من جهة أنها لتقدير المعنى، وليس كذلك (أن) لانها لاستقبال الفعل و (لو) للماضي، فلما كان الاعتماد على تصور المعنى صار في حكم الواقع، فلو قال قائل: حسبت أن يقوم زيد، لما دل على التمنى، ولو قال حسبت لو يقوم زيد لدل على التمني فبان الفرق بينهما.
وقوله { ببنيه } يعني بأولاده الذكور { وصاحبته } يعني زوجته { وأخيه } يعني ابن أبيه وأمه { وفصيلته التي تؤويه } فالفصيلة هي المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى ابوة خاصة، وهي الجماعة التي ترجع إلى أبوة خاصة عن ابوة عامة { ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه } أى يتمنى هذا الكافر بان يتخلص من بعذاب الله بأن يفتدى بهؤلاء كلهم، فقال الله تعالى { كلا } أى ليس ينجيه من عقاب الله شيء وقال الزجاج { كلا } ردع وتنبيه أى لا ينجيه احد من هؤلاء فارتدعوا.
وقوله { إنها لظى } فلظى اسم من اسماء جهنم مأخوذ من التوقد، ومنه قوله
{ فأنذرتكم ناراً تلظى } وموضع { لظى } رفع، لأنها خبر (ان) و { نزاعة للشوى } خبر آخر - على قول من رفع - ومن نصب جعله حالا، ويجوز أن تكون الهاء في { إنها } عماداً، و { لظى } ابتداء وخبرها { نزاعة } إذا رفع، قال الزجاج: ويجوز أن يكون كقولهم: هذا حلو حامض، وتقديره النار لظى، وهي انزاعة ايضاً. ومعنى نزاعة كثيرة النزع وهو اقتلاع عن شدة. والاقتلاع أخذ بشدة اعتماد، والشوى جلدة الرأس. والشوى الكوارع والاطراف، والشوى ماعدا المقتل من كل حيوان، يقال: رمى فأشوى إذا اصاب غير المقتل، ورمى فأصمى إذا اصاب المقتل، ومنه الشوي، لان النار تأخذ الجلدة والاطراف بالتغير. والشوى الخسيس من المال. وقيل: ان جهنم تنزع جلدة الرأس واطراف البدن، والشوى جمع شواة قال الاعشى:

قالت قتيلة ماله قد حللت شيباً شواته

وقال ابن عباس: نزاعة للشوى للجلد وأم الراس. وقال ابو صالح: لحم الساق، وقال قتادة: الهام والاطراف. وقال الفراء: كل ما كان غير مقتل فهو شوى. وقال ابو عمر الدوري: كان الكسائي لا يقف على (كلا) فى شيء من القرآن إلا على هذين فى هذه السورة. وقال ابن خالويه: أعلم أن فى القرآن ثلاثاً وثلاثين موضعاً { كلا } فليس فى النصف الأول منه شيء، فمن وقف عليه جعله رد للكلام. ومن لم يقف جعله بمعنى حقاً، قال الشاعر:

يقلن لقد بكيت فقلت كلا وهل تبكي من الطرب الجليد

فالطرب خفة تصيب الانسان لشدة الخوف قال الشاعر:

وأراني طرباً فى أثرهم طرب الواله أو كالمختبل

وقال فى السرور:

اطربا وأنت قنسري والدهر بالانسان دواري

يقول أطربا وأنت شيخ. وقوله تعالى { تدعو من أدبر وتولى } قيل فى معناه قولان:
احدهما - إنه لا يفوت هذه النار كافر، فكأنها تدعوه فيجيبها كرها.
والثاني - ان يخرج لسان من النار فيتناوله كأنها داعية بأخذها، وهو كقوله
{ تكاد تميز من الغيظ } وقال الفراء: وغيره: إن النار تدعو الكافر والفاسق، فتقول إليّ اليّ، وهذا يجوز إذا فعل الله تعالى فيها الكلام، ويضاف اليها مجازاً. وقال قتادة: تدعو من أدبر وتولى عن طاعة الله. وقال مجاهد: من تولى عن الحق وقيل: معناه تدعو زبانيتها من أدبر وتولى عن طاعة الله. وقوله { وجمع فأوعى } معناه عمل فجمع المال فى الدنيا وأدبر عن الحق وتولى، فالنار تدعوه بما يظهر فيها من انه أولى بها. وقال مجاهد { جمع } المال { فأوعى } ولم يخرج حق الله منه، فكأنه جعله فى وعاء على منع الحقوق منه.
وقوله { إن الإنسان خلق هلوعاً } اخبار منه تعالى بان الانسان خلق هلوعاً والهلوع هو الشديد الحرص، الشديد الجزع من الضجر - فى قول ابن عباس وعكرمة - وقيل: معناه خلق ضعيفاً عن الصبر على الجزع والهلع، لانه لم يكن في ابتداء خلقه يهلع ولا يجزع ولا يشعر بذلك حال الطفولية، وإنما جاز ان يخلق الانسان على هذه الصفة المذمومة، لانها تجري مجرى خلق سهوه القبيح ليجتنب المشتهى، لان المحنة في التكليف لا تتم إلا بمنازعة النفس إلى القبيح ليجتنب على وجه الطاعة لله تعالى، كما لا يتم إلا بتعريف الحسن من القبيح في العقل ليجتنب أحدهما ويفعل الآخر { إذا مسه الشر جزوعاً } لو كان منقطعاً عن الاول لكان مرفوعاً، والجزع ظهور الفزع بحال تنبئ عنه { وإذا مسه الخير منوعاً } معناه إذا نال الانسان الخير والسعة فى الدنيا منع حق الله فيه من الزكاة وغيرها مما فرض الله عليه، فالمس الملاقاة من غير فعل، ويقال: مسه يمسه، وتماسا إذا التقيا من غير فعل، وماسه مماسة. والمنع هو القطع عن الفعل بما لا يمكن وقوعه معه، وهو على وجهين: احدهما - منع القادر ان يفعل. والآخر - منع صاحب الحق أن يعطى حقه. والبخل منع الحق صاحبه.
لما وصف الله تعالى الانسان بالصفات المذمومة اسنثنى من جملتهم من لا يستحق الذم، لان الانسان عبر به عن الناس، فهو لعموم الجنس، كما قال
{ إن الإنسان لفي خسر إلا الذين } وكذلك - ها هنا - قال { إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون } ومعناه الذين يستمرون على اداء الصلاة التي أوجبها الله عليهم لا يخلون بها ولا يتركونها. وروي عن أبي جعفر عليه السلام أن ذلك فى النوافل يديمون عليها وقوله { والذين هم على صلواتهم يحافظون } فى الفرائض والواجبات { والذين في أموالهم حق معلوم } فالحق وضع الشيء في موضعه على ما يقتضيه العقل والشرع من قولهم: حق الشيء يحق حقاً، وحقه كقولك تحققه. والمال عبارة في الشرع عن مقدار معين من العين أو الورق يتعلق به وجوب الزكاة واكثر ما يستعمل في اللغة في المواشي من الابل والبقر والغنم. وقال ابن عباس: الحق المعلوم هو البرّ الذي يخرج في صدقة أو صلة رحم. وقال قتادة: هو الزكاة المفروضة { للسائل والمحروم } والسائل هو الذي يسأل ويطلب. والمحروم، قال ابن عباس: هو المحارف وقال الحسن: هو الذي حرم أن يعطى الصدقة بتركه المسألة. وقيل: هو الذي قد حرم الرزق وهو لا يسأل الناس.
وقوله { عذاب يومئذ } قرئ بالفتح والكسر من { يومئذ } فمن كسر الميم فعلى أصل الاضافة، لان الذي أضيف اليه الاول مخفوض أيضاً بالاضافة فهذا مضاف إلى مضاف. ومن فتح فلأنه مضاف إلى غير متمكن مضاف إلى (إذ) و (إذ) مبهمة ومعناه يوم إذ يكون كذا ويكون كذا فلما كانت مبهمة وأضيف اليها بني المضاف اليها على الفتح وانشد:

لم يمنع الشرب منها غير ان نطقت حمامة في غصون ذات او قال

لما اضاف (غير) إلى (ان) بناها على الفتح، وهي في موضع رفع، وروي (غير أن) نطقت بالرفع.