التفاسير

< >
عرض

سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ
١
لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ
٢
مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ
٣
تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ
٤
فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
٥
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً
٦
وَنَرَاهُ قَرِيباً
٧
يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ
٨
وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ
٩
وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً
١٠
-المعارج

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ اهل المدينة وأهل الشام { سال } بغير همز وهو يحتمل أمرين:
احدهما - ان يكون من السيل تقول: سال يسيل سيلا فهو سائل، وسايل واد في جهنم، كما قال { أعوذ برب الفلق } والفلق جب في جهنم. واجمعوا على همزة { سائل } لانه ولو كان من { سال } بغير همز، فالياء تبدل همزة إذا وقعت بعد الالف مثل البائع والسائر من (باع، وسار).
والثاني - بمعنى سأل بالهمزة، لانها لغة يقولون سلت أسال، وهما يتسالان قال الشاعر:

سالت هذيل رسول الله فاحشة ضلت هذيل بما سالت ولم تصب

فهي لغة أخرى، وليست مخففة من الهمزة الباقون بالهمز من السؤال الذي هو الطلب. وقرأ الكسائي وحده { يعرج } بالياء، لان تأنيث الملائكة ليس بحقيقي، الباقون - بالتاء. وقرأ ابن كثير - في رواية البزي - وعاصم في رواية البرجمي عن ابي بكر { ولا يسأل } بضم الياء. الباقون بفتح الياء اسندوا السؤال إلى الحميم.
حكى الله تعالى انه { سأل سائل بعذاب واقع } قال الفراء: الداعي بالعذاب هو النضر بن كلدة أسر يوم بدر وقتل صبراً، هو وعقبة بن أبي معيط. وقال: تقديره سأل سائل بعذاب { واقع للكافرين } قال ابن: خالويه قال النحويون: إن الباء بمعنى (عن) وتقديره: سأل سائل عن عذاب واقع وانشد:

دع المعمر لا تسأل بمصرعه واسأل بمصقله البكري ما فعلا

أي لا تسأل عن مصرعه، وهذا الذي سأل العذاب الواقع إنما تجاسر عليه لما كذب بالحق ليوهم أنه ليس فيه ضرر، ولم يعلم انه لازم له من الله. وقال مجاهد: سؤاله فى قوله { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } وقال الحسن: سأل المشركون، فقالوا: لمن هذا العذاب الذي يذكره محمد؟ فجاء جوابهم بأنه { للكافرين ليس له دافع } وقيل: معناه دعا داع بعذاب للكافرين، وذلك الداعي هو النبي صلى الله عليه وآله، واللام فى قوله { للكافرين } قيل في معناها قولان:
أحدهما - إنها بمعنى (على) وتقديره سأل سائل بعذاب واقع على الكافرين، ذهب اليه الضحاك.
والثاني - إنها بمعنى (عن) أي ليس له دافع عن الكافرين، وإنما ذكر وعيد الكافر - ها هنا - مع ذكره فى غير هذا الموضع، لأن فيه معنى الجواب لمن سأل العذاب الواقع، فقيل له: ليس لعذاب الكافرين دافع، فاعمل على هذا، وتقدم نظيره وتأخر، والدافع هو الصارف للشيء عن غيره باعتماد يزيله، عنه دفعه عن كذا يدفعه دفعاً، فهو دافع وذاك مدفوع.
وقوله { من الله ذي المعارج } يعني مصاعد الملائكة. وقيل: معناه ذي الفواضل العالية، فيكون وصفاً لله تعالى، وتقديره من الله ذي المعالي التي هي الدرجات التي يعطيها أولياءه من الانبياء والمؤمنين فى الجنة، لانه يعطيهم درجات رفيعة ومنازل شريفة، والمعارج مواضع العروج، واحدها معرج، عرج يعرج عروجاً والعروج الصعود مرتبة بعد مرتبة، ومنه الأعرج لارتفاع احدى رجليه عن الأخرى وقال قتادة: معنى ذي المعارج ذي الفواضل والنعم، لأنها على مراتب. وقال مجاهد: هي معارج السماء. وقيل: هي معالي الدرجات التي يعطيها الله تعالى اولياءه فى الجنة. وقال الحسن: معناه ذي المراقي إلى السماء. والذي اقتضى ذكر المعارج البيان عن العقاب الذي يجب ان يخافه، على خلاف هذا الجاهل الذي سأل العذاب الواقع على من كفر نعمته.
وقوله { تعرج الملائكة } معناه تصعد الملائكة { والروح } أي يصعد الروح أيضاً معهم { اليه } والمعنى تعرج الملائكة والروح الذي هو جبرائيل إلى الموضع الذي يعطيهم الله فيه الثواب في الآخرة { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } لعلوّ درجاتهم، وإنما قال { إليه } لانه هناك يعطيهم الثواب، كما قال فى قصة إبراهيم
{ إني ذاهب إلى ربي } أى الموضع الذى وعدني ربي، وكذلك الموضع الذى وعدهم الله بالثواب فيه. وقيل: تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره من عروج غيرهم خمسين الف سنة، وذلك من اسفل الأرضين السبع الى فوق السماوات السبع - ذكره مجاهد - وقوله { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } فهو لما بين السماء الدنيا والارض في الصعود والنزول الف سنة: خمسمائة صعوداً وخمسمائة نزولا - ذكره مجاهد - ايضاً. وقيل: المعنى ان يوم القيامة يفعل فيه من الامور ما لو فعل في الدنيا كان مقداره خمسين الف سنة. وقال قوم: المعنى إنه من شدته وهو له وعظم العذاب فيه على الكافرين كانه خمسون الف سنة، كما يقول القائل: ما يومنا إلا شهر أي في شدته، وعلى هذا قول امرء القيس:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبح وما الإصباح منك بأمثل
ويا لك من ليل كأن نجومه بكل مغار الفتل شدت بيذبل

ويؤكد هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه لما نزلت هذه الآية قيل له ما أطول هذا اليوم؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله "والذي بعثني بالحق نبياً إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا" وقال الضحاك وقتادة: هو يوم القيامة. وقال الزجاج: يجوز أن يكون { يوماً } من صلة { واقع } فيكون المعنى سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين الف سنة وذلك العذاب يقع يوم القيامة. وقال الحسن: تعرج الملائكة بأعمال بني آدم في الغمام، كما قال { ويوم تشقق السماء بالغمام } وقال الزجاج: سماه يوماً، لأن الملائكة تعرجه في مقدار يوم واحد. ثم أمر نبيه فقال { فاصبر صبراً جميلاً } أي لا شكوى فيه على ما تقاسيه من أذى قومك، وتكذيبهم إياك فيما تخبر به من أمر الآخرة. قال الزجاج: ذلك قبل أن يؤمر بالقتال.
وقوله تعالى { إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً } اخبار من الله تعالى أنه يعلم مجيء يوم القيامة وحلول العقاب بالكفار قريباً، ويراه أي يظنه الكفار بعيداً، لانهم لا يعتقدون صحته، وكل ما هو آت قريب، وهذا على وجه الانكار عليهم استبعادهم يوم الجزاء، وتوهمهم أنه بعيد. وبين أنه تعالى يراه قريباً بما يعلمه من حصوله، وإنما جاز أن يقال في توهمهم: يرونه لأنهم يتوهمونه، وهم عند أنفسهم يرونه، فجاء على مزاوجة الكلام الذي ينبئ عن المعنى من غير اخلال. وقيل: معنى إنهم يرون العذاب الذي سألوا عنه بعيداً، لانهم لا يؤمنون به، ونراه قريباً لان كل ما هو آت قريب.
ثم وصف الله تعالى يوم القيامة فقال { يوم تكون السماء كالمهل } قال الزجاج: المهل دردي الزيت، وقال مجاهد: هو عكر الزيت. وقال قوم: هو الصفر المذاب. وقال قوم: المهل هو الجاري بغلظة وعكرة على رفق: من أمهله إمهالا، وتمهل تمهلا { وتكون الجبال كالعهن } فالعهن الصوف المنفوش، وذلك ان الجبال تقطع حتى تصير بهذه الصفة، كما أن السماء تشقق بالغمام وتكون كالمهل.
وقوله { ولا يسأل حميم حمياً } فالحميم القريب النسب إلى صاحبه الذي يحمى لغضبه وأصله القرب قال الشاعر:

احم الله ذلك من لقاء أحاد احاد في الشهر الحلال

وقال مجاهد: لا يسأل حميم حميماً لشغل كل إنسان بنفسه عن غيره. وقال الحسن: لا يسأله ان يحمل عنه من اوزاره ليأسه من ذلك في الآخرة. وقيل { لا يسأل حميم حميماً } لانه { يعرف المجرمون بسيماهم } ومن ضم الياء أراد لا يطالب قريب بأن يحضر قريبه كما يفعل أهل الدنيا بأن يؤخذ الحميم بحميمه والجار بجاره، لأنه لا جور هناك، ويجوز أن يكون المراد لا يسأل حميم عن حميمه ليعرف شأنه من جهته، كما يتعرف خبر الصديق من جهة صديقه، والقريب من قريبه. ثم يحذف الجار ويوصل الفعل إلى المفعول به، ويقوي ذلك قوله { يبصرونهم } أى يبصر الحميم حميمه. والفعل فيه قبل تضعيف العين بصرت به، كما قال حكاية عن السامري { بصرت بما لم يبصروا به } }.