التفاسير

< >
عرض

وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً
٧
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً
٨
ثُمَّ إِنِّيۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً
٩
فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً
١٠
يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً
١١
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً
١٢
مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً
١٣
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً
١٤
-نوح

التبيان الجامع لعلوم القرآن

لما حكى الله تعالى عن نوح أنه قال يا رب اني دعوت قومي الى طاعتك ليلا ونهاراً فلم يزدادوا عند دعائي إلا بعداً عن القبول قال { وإني كلما دعوتهم } إلى اخلاص عبادتك { لتغفر لهم } معاصيهم جزاء على ذلك { جعلوا أصابعهم في آذانهم } لئلا يسمعوا كلامي ودعائي { واستغشوا ثيابهم } أي طلبوا ما يستترون به من الثياب ويختفون به لئلا يرونه. وقال الزجاج: معناه إنهم كانوا يسدون آذانهم ويغطون وجوههم لئلا يسمعوا كلامه. فالاستغشاء طلب الغشى، فلما طلبوا التغشي بثيابهم فراراً من الداعي لهم، كانوا قد استغشوا { وأصروا } أي اقاموا على كفرهم ومعاصيهم عازمين على فعل مثله، فالاصرار الاقامة على الأمر بالعزيمة عليه فلما كانوا مقيمين على الكفر بالعزم عليه كانوا مصرّين. وقيل إن الرجل منهم كان يذهب بابنه إلى نوح، فيقول لأبنه: احذر هذا لا يغوينك، فان ابي قد ذهب بي اليه وأنا مثلك، فحذرني كما حذرتك، ذكره قتادة. وقوله { واستكبروا استكباراً } أي طلبوا بامتناعهم من القبول مني واخلاص عبادتك تجبراً في الارض وعلواً فيها. ثم حكى أنه قال { ثم إني دعوتهم جهاراً } أي اعلاناً { ثم إني أعلنت لهم } أي أظهرت الدعاء لهم الى عبادتك تارة { وأسررت لهم } أي وأخفيت لهم الدعاء الى مثل ذلك كرة أخرى { فقلت } لهم { واستغفروا ربكم } أي اطلبوا المغفرة على كفركم ومعاصيكم من الله تعالى { إنه كان غفاراً } لكل من طلب منه المغفرة ويغفر فيما بعد لمن يطلب منه ذلك ومتى فعلتم ذلك واطعمتوه ورجعتم عن كفركم ومعاصيكم { يرسل } الله تعالى { السماء عليكم مدراراً } أي كثيرة الدرور بالغيث والمطر، وقيل: إنهم كانوا قحطوا وأجدبوا وهلَكت اولادهم ومواشيهم، فلذلك رغبهم فى ترك ذلك بالرجوع الى الله، والدرور تجلب الشيء حالا بعد حال على الاتصال يقال: درّ درّاً ودروراً فهو دار، والمطر الكثير الدّرور مدراراً. وقيل: ان عمر لما خرج يستسقي لم يزد على الاستغفار وتلا هذه الآية. وقوله { ويمددكم بأموال وبنين } عطف على الجزاء. وتقديره إنكم متى اطعتموه وعبدتموه مخلصين أرسل عليكم المطر مدراراً وأمدكم بأموال وبنين، فالامداد إلحاق الثاني بالاول على النظام حالا بعد حال، يقال: أمده بكذا يمده امداداً، ومد النهر وأمده نهر آخر. والاموال جمع المال، وهو عند العرب النعم. والبنون جمع إبن، وهو الذكر من الولد { ويجعل لكم جنات } أى بساتين تجنها الأشجار { ويجعل لكم أنهاراً } وهو جمع نهر وهو المجرى الواسع للماء دون سعة البحر وفوق الجدول في الاتساع لان الجدول النهر الصغير يرى شدة جريه لضيقه ويخفى في النهر ضرباً من الخفاء لسعته
ثم قال لهم على وجه التبكيت { ما لكم } معاشر الكفار { لا ترجون لله وقاراً } أي عظمة - في قول ابن عباس ومجاهد والضحاك - والمراد - ههنا - سعة مقدوراته تعالى، وأصل الوقار ثبوت ما به يكون الشيء عظيماً من الحكم والعلم الذي يمتنع معه الخرق، ومنه قرّه في السمع ووعاه في القلب إذا ثبت في السمع وحفظه القلب. وقيل: معنى ترجون تخافون. قال أبو ذؤيب:

اذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل

أي لم يخف، وكأنه قال: مالكم لا ترجون لله عاقبة عظيمة من الثواب بالخلود في النعيم أو تخافون عاقبة عصيانه بالدخول في عذاب النار { وقد خلقكم أطواراً } فالاطوار انتقال الأحوال حالا بعد حال. وقيل: معناه صبياً ثم شاباً ثم شيخاً ثم غير عاقل ثم عاقلا وضعيفاً ثم قوياً. وقال: ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك وابن زيد: نطفة ثم علقة ثم مضغة. وقيل: معناه على ألوان مختلفة بيضاء وسوداء وشقراء وصفراء.