التفاسير

< >
عرض

وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً
١١
وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً
١٢
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً
١٣
وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً
١٤
وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً
١٥
وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً
١٦
لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً
١٧
وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً
١٨
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً
١٩
قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُواْ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً
٢٠
-الجن

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ اهل الكوفة ويعقوب وسهل { يسلكه } بالياء بمعنى يسلكه الله. الباقون بالنون على وجه الاخبار منه تعالى عن نفسه بنون العظمة. وقرأ ابو جعفر وعاصم وحمزة { قل إنما أدعوا ربي } بلفظ الامر. الباقون { قال } على فعل ماض. وقرأ هشام بن عماد عن ابن عامر { لبداً } بضم اللام. الباقون بكسر اللام. واللبد واللبد بمعنى واحد، وجمع اللبدة لبد، مثل ظلمة وظلم. ويقال: لا بد ولبد، مثل رَاكع وركِع.
يقول الله تعالى في تمام الحكاية عما قالته الجن الذين آمنوا عند سماع القرآن فانهم قالوا { وإنا منا الصالحون } وهم الذين عملوا الصالحات وسمي صالحاً، لأنه عمل ما يصلح به حاله في دينه. وأما المصلح فهو فاعل الصلاح الذي يقوم به أمر من الأمور، ولهذا وصف تعالى بأنه مصلح، ولم يجز وصفه بأنه صالح. والصلاح يتعاظم استحقاق المدح عليه والثواب كما يختلف استحقاق الشكر بالنعم، ففي النعم ما يستحق به العبادة وفيها ما لا يستحق به ذلك وإن استحق به الشكر، فلذلك قال { ومنادون ذلك } والمعنى ان منا الصالحين في مراتب عالية ومنادون ذلك في الرتبة.
وقوله { كنا طرائق قدداً } قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يعني على مذاهب مختلفة: مسلم، وكافر، وصالح، ودون الصالح. والطرائق جمع طريقة وهي الجهة المستمرة مرتبة بعد مرتبة. والمعنى فيها إنا كنا في طرق مختلفة. والقدد جمع قدة. وهي المستمرة بالقد في جهة واحدة. والقدد مضمن بجعل جاعل، وهو القادّ، وليس كذلك الطريقة في تضمن الصفة، وإنما هي كالمذهب الذي يمكن فيه على استمرار الى حيث انتهى اليه. والمعنى إنا كنا على طرائق متباينة كل فرقة يتباين صاحبها كما بين المقدود بعضه من بعض.
وقوله { وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض } فالظن - ها هنا - بمعنى العلم والمعنى اعترافهم بأن علموا أنه لا يفوت الله شيء يذهب في الارض، ولا إذا هرب منه بسائر ضروب الهرب، واعترفوا ايضاً فقالوا { وإنا لما سمعنا الهدى } يعنون القرآن الذي فيه هدى كل حي { آمنا به } أي صدقناه. ثم قالوا { فمن يؤمن بربه } أي من يصدق بتوحيد الله وعرفه على صفاته { فلا يخاف بخساً } أي نقصاناً فيما يستحقه من الثواب { ولا رهقاً } أي ولا يخاف ظلماً، فالرهق لحاق السرف فى الامر، وكأنه قال لا يخاف نقصاً قليلا ولا كثيراً، وذلك أن اجره وثوابه موفر على أتم ما يكون فيه. وقال ابن عباس: معناه لا يخاف نقصاً من حسناته ولا زيادة فى سيئاته، وهو قول الحسن وقتادة وابن زيد، والتقدير فمن يؤمن بربه فانه لا يخاف
ثم قالوا ايضاً { وإنا منا المسلمون } يعني الذين استسلموا لما أمرهم الله به، وانقادوا له { ومنا القاسطون } يعني الجائرون عن طريق الحق. والقاسط الجائر عن طريق الحق { فمن أسلم } أي استسلم لأمر الله { فأولئك تحروا رشداً } أي طلبوا الهدى إلى الحق، { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً } أي استحقوا بذلك أن يكونوا وقود النار يوم القيامة يحرقون بها. وقوله { وأن لو استقاموا على الطريقة } اخبار من الله تعالى عن نفسه. وقيل (ان) يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، فيكون محمولا على الوحي، فكانه قال { أوحي إلي أن لو استقاموا } وفصل لو بينها وبين الفعل، كما فصل (السين) و (لا) فى قوله
{ علم أن سيكون منكم مرضى } قوله { أن لا يرجع إليهم } ويحتمل أن تكون (لو) بمنزلة اللام في قوله { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم } فيسقط مرة ويلحق أخرى، لان (لو) بمنزلة فعل الشرط، فكما لحقت اللام زائدة قبل (إن) الداخلة على الشرط قبل فعل الشرط، كذلك لحقت (أن) هذه قبل (لو) ومعنى { وأن لو استقاموا } أحد أمرين:
احدهما - لو استقاموا على طريقة الهدى بدلالة قوله
{ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } وقوله { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا } الثاني - لو استقاموا على طريقة الكفر بدلالة قوله { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة } وقيل: انه دخلت (ان) في { وأن لو استقاموا } لانه جواب القسم. ويجوز أن يحذف، كما قال الشاعر:

فأقسم لوَ شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

وقال آخر:

اما والله إن لو كنت حراً وما بالحر انت ولا العتيق

والاستقامة الاستمرار في جهة العلو. والمستقيم من الكلام المستمر على طريقة الصواب. وهو نقيض المحال. والاستقامة على طريق الحق التي يدعو اليها العقل طاعة الله. والمعنى - ههنا - في قول أكثر المفسرين: إنه لو استقام العقلاء على طريقة الهدى استمروا عليها وعملوا بموجبها لجازاهم على ذلك بأن اسقاهم ماء غدقاً، يعني كثيراً. والغدق بفتح الدال المصدر، وبكسرها اسم الفاعل، وفي ذلك ترغيب فى الهدى. قال الفراء: معناه وأن لو استقاموا على طريقة الكفر لفعلنا بهم ما ذكرناه تغليظَا للمحنة فى التكليف، ولذلك قال { لنفتنهم فيه } أي نختبرهم بذلك ونبلوهم به. وغدق المكان يغدق غدقاً إذا كثر فيه الماء والندى، وهو غدق - فى قول الزجاج - وقوله { لنفتنهم فيه } معناه لنختبرهم ونعاملهم معاملة المختبر فى شدة التعبد بتكليف الانصراف عما تدعو شهواتهم اليه، على ما تقتضيه الحكمة فى ذلك والفتنة المحنة الشديدة، والمثوبة على قدر المشقة فى الصبر عما تدعوا اليه الشهوة.
ثم قال تعالى مهدداً لهم ومتوعداً { ومن يعرض عن ذكر ربه } والمعنى من يعدل عن الفكر فيما يؤديه الى معرفة الله وتوحيده واخلاص عبادته، فالذكر حضور المعنى الدال على المذكور للنفس، وضده السهو، ومثله حضور المعنى بالقلب. والفكر في وجوه السؤال عن المعنى طلب للذكر له. والفكر فى البرهان طلب للعلم بصحة المعنى المذكور وأنه حق ونقيضه باطل. وقوله { يسلكه عذباً صعداً } اى متصعداً في العظم. وقيل: متصعداً قد غمره وأطبق عليه. ومعناه عذباً أشهد العذاب من قوله
{ سأرهقه صعوداً } فاما قول العرب: تنفس الصعداء على وزن (فعلاء) أكثر كلامهم، ومنه قيل تنفس صعداً على وزن غرب والصعود العقبة الشاقة. وقال الفراء: الصعود صخرة ملساء في النار ويكلف الصعود عليها، فكلما بلغ رأسها أحد هوى الى أسفلها وقوعاً.
وقوله { وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً } عطف عند جميع المفسرين على قوله { أوحي } كأنه قال: أوحي الي أن المساجد لله، وقال الخليل: التقدير، ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً مثل قوله { وإن هذه أمتكم } وتقديره: ولأن هذه أمتكم
{ أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } والمعنى الاخبار منه تعالى بأن لا يذكر مع الله في المساجد - وهي المواضع التي وضعت للصلاة - أحد على وجه الاشتراك في عبادته، كما يدعوا النصارى في بيعهم والمشركون في الكعبة. وقال الحسن: من السنة إذا دخل المسجد أن يقول: لا إله الا الله، لا أدعو مع الله أحداً. وقيل: معناه إنه يجب أن يدعوه بالوحدانية. وقال الفراء والزجاج: المساجد مواضع السجود من الانسان: الجبهة، واليدان، والرجلان وزاد أصحابنا عيني الركبتين. والمعنى إنه لا ينبغي أن يسجد بهذه الاعضاء لأحد سوى الله تعالى.
وقوله { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً } معناه إنه لما قام محمد صلى الله عليه وآله يدعو الله، فيقول: لا إله الا الله كادوا يكونون عليه جماعات متكاثفات بعضها فوق بعض ليزيلوه بذلك عن دعوته باخلاص الالهية. وقال ابن عباس والضحاك: معناه إن الجن كادوا يركبونه حرصاً على سماع القرآن منه. وقال الحسن وقتادة: معناه تلبدت الانس والجن على هذ الامر ليطفئوه فابي الله الا أن ينصره ويظهره على من ناواه، كما قال
{ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون } وقال ابن عباس: هذا من قول الجن، لما رجعوا الى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب رسول الله وإئتمامهم به في الركوع والسجود، وهو قول سعيد بن جبير: واللبد القطع المتكاثفة على الشيء واحدها لبد، ومنه اللبد لتكاثف صفوفه بعضه على بعض. ولبد رأسه إذا ألصق بعض شعره ببعض قال عبد مناف بن ربع:

صابوا بستة أبيات واربعة حتى كأن عليهم جابياً لبدا

فالجابي الجراد الذي يجبي كل شيء يأكله.
ثم حكى ان النبي صلى الله عليه وآله قال { إنما أدعوا ربي } ومن قرأ { قل } فمعناه إن الله أمره بأن يقول: إنما أدعو ربي وحده ولا أشرك به أحداً من الاصنام والاوثان. والمعنيان متقاربات، لأن الله تعالى إذا أمره بأن يقول فانه يقول لا محالة فقد حصل الامران.