التفاسير

< >
عرض

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً
١
يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً
٢
وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً
٣
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً
٤
وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً
٥
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً
٦
وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً
٧
وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً
٨
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً
٩
وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً
١٠
-الجن

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قال الفراء: قرأ حوبة بن عابد { قل أحي إلي } أراد وحي اليّ مثل وعد فقلبت الواو همزة، كما قلبها فى قوله { وإذا الرسل أقتت } وأصله وقتت. والعرب تقول: وحيت اليه، واوحيت بمعنى واحد وومأت اليه وأومات، قال الراجز:

وحى لها القرار فاستقرت

وقرأ ابن كثير وابو عمرو { قل أوحي إلي أنه استمع } و { أن لو استقاموا } { وأن المساجد لله } و { أنه لما قام عبد الله } أربعة أحرف - بفتح الالف - والباقي من أول السورة الى ها هنا بكسر الالف. وقرأ نافع وعاصم فى رواية أبي بكر كذلك، إلا قوله { وأنه لما قام عبد الله } فانه قرأ بالكسر. الباقون بفتح جميع ذلك إلا ما جاء بعد (قول) او (فاء جزاء) فانهم يكسرونه. من فتح جميع ذلك جعله عطفاً علي { أوحي إليّ أنه } وأنه. ومن كسر عطف على قوله { إنا } وإنا. قال قوم: ومن نصب فعلى تقدير آمنا به وبكذا فعطف عليه. قال الزجاج: إن عطف على الهاء كان ضعيفاً، لان عطف المظهر على المضمر ضعيف، ومن جعله مفعول { آمنا } فنصبه به كأنه قال: آمنا بكذا وكذا، وأسقط الباء فنصب على المعنى، لأن معنى { آمن } صدق، فكأنه قال: صدقنا بكذا وكذا، وحذف الجار. ومن كسر من هؤلاء بعد القول أو فاء الجزاء، فلأنه لا يقع بعد القول والفاء إلا ما هو ابتداء، أو ما هو فى حكم الابتداء. ومن كسر جميع ذلك جعله مستأنفاً، ولم يوقع { آمنا } عليه، وما نصب من ذلك جعله مفعولا بايقاع فعل عليه. فأما قوله { أوحي إلي أنه استمع } فمفعول { أوحي } لا غير بلا خلاف. وقرأ ابو جعفر { أن لن تقوّل الإنس } على معنى تكذب. الباقون بتخفيف الواو من القول.
يقول الله تعالى آمراً لمحمد نبيه صلى الله عليه وآله { قل } يا محمد لقومك ومن بعثت اليه { أوحي إلي } فالايحاء القاء المعنى إلى النفس خفياً كالالهام، وانزال الملائكة به لخفائه عن الناس إلا على النبي الذي انزل اليه كالايماء الذي يفهم به المعنى. والمراد - ها هنا - انزال الملك به عليه. ثم بين ما أوحي اليه فقال { انه استمع نفر من الجن } فالاستماع طلب سماع الصوت بالاصغاء اليه، وهو تطلب لفهم المعنى، وتطلب ليستدل به على صاحبه. وقيل: ان الجن لما منعوا من استراق السمع طافوا فى الارض، فاستمعوا القرآن، فآمنوا به، فانزل بذلك الوحي على النبي صلى الله عليه اله ذكره ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم. والنفر الجماعة. والجن جيل رقاق الاجسام خفية على صور مخصوصة بخلاف صورة الملائكة والناس. وقيل: العقلاء من الحيوان ثلاثة اصناف: الملائكة، والناس، والجن. والملك مخلوق من النور، والانس من الطين والجن من النار.
ثم ذكر انه قالت الجن بعضها لبعض { إنا سمعنا قرآناً عجباً } والعجب هو كل شيء لا يعرف سببه. وقيل: هو ما يدعو إلى التعجب منه لخفاء سببه وخروجه عن العادة فى مثله، فلما كان القرآن قد خرج بتأليفه عن العادة فى الكلام، وخفي سببه عن الأنام كان عجباً.
وقوله { يهدي إلى الرشد } حكاية ما قالت الجن ووصفت به القرآن، فانهم قالوا: هذا القرآن يهدي إلى ما فيه الرشاد والحق { فآمنا به } أي صدقنا بأنه من عند الله { ولن نشرك } فيما بعد { بربنا أحداً } فنوجه العبادة اليه بل نخلص العبادة له تعالى { وأنه تعالى جدّ ربنا } من كسر الهمزة عطفه على قوله { إنا سمعنا } وحكى أنهم قالوا (إنه) ويجوز أن يكون استأنف الاخبار عنهم، ومن فتح فعلى تقدير فآمنا بأنه تعالى جدّ ربنا، ومعناه تعالى عظمة ربنا، لانقطاع كل شيء عظمة عنها لعلوها عليه. ومنه الجد ابو الأب، والجد الحظ لانقطاعه بعلو شأنه. والجد ضد الهزل لانقطاعه عن السخف، ومنه الجديد لأنه حديث عهد بالقطع فى غالب الأمر. وقال الحسن - فى رواية - ومجاهد وقتادة: معناه تعالى جلالته وعظمته. وفى رواية اخرى عن الحسن: تعالى غني ربنا، وكل ذلك يرجع الى معنى وصفه بأنه عظيم غني. ويقال: جد فلان فى قومه إذا عظم فيهم. وروي عن أحدهما عليهم السلام انه قال: ليس لله جدّ وإنما قالت ذلك الجن بجهلها فحكاه كما قالت. وقال الحسن: ان الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وآله إلى الانس والجن، وانه لم يرسل رسولا قط من الجن ولا من أهل البادية، ولا من النساء، لقوله
{ { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى } }. وقوله { ما اتخذ صاحبة ولا ولداً } على ما قال قوم من الكفار.
وقوله { وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططاً } من كسر استأنف. ومن نصب عطف على قوله { وأنه تعالى جد ربنا } ونصب ذلك بتقدير آمنا، وقدر للباقي فعلا يليق به، ويمكن أن يعمل فيه، كما قال الشاعر:

إذا ما الغانيات برزن يوماً وزججن الحواجب والعيونا

على تقدير: وكحلن العيون، وقال مجاهد وقتادة: أرادوا بـ { سفيههم } ابليس و (الشطط) السرف فى ظلم النفس والخروج عن الحق، فاعترفوا بأن ابليس كان يخرج عن الحد بما يغري به الخلق ويدعوهم إلى الضلال.
وقوله { وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً } اخبار عن اعترافهم بأنهم ظنوا أن لا يقول أحد من الجن والانس كذباً على الله فى اتخاذ الشريك معه والصاحبة والولد، وأن ما يقولونه من ذلك صدق حتى سمعنا القرآن وتبينا الحق به.
وقوله { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } قال البلخي: قال قوم: المعنى إنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الانس من أجل الجن، لأن الرجال لا يكون إلا فى الناس دون الجن. ومن قال بالأول قال فى الجن رجال مثل ما فى الانس. وقال الحسن وقتادة ومجاهد: كان الرجل من العرب إذا نزل الوادي في سفره قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه. ومعنى { يعوذون } يستجيرون، وهذا اخبار من الله تعالى عن نفسه دون الحكاية عن الجن. والعياذ الاعتصام وهو الامتناع بالشيء من لحاق الشر. والرجال جمع رجل وهو الذكر البالغ من الذكران. والانسان يقع على الذكر والمرأة، والصغير والكبير ثم ينفصل كل واحد بصفة تخصه وتميزه من غيره.
وقوله { فزادوهم رهقاً } أي اثماً الى اثمهم الذي كانوا عليه من الكفر والمعاصي - فى قول ابن عباس وقتادة - وقال مجاهد: يعني طغياناً. وقال الربيع وابن زيد: يعني فرقاً. وقيل سفهاً. قال الزجاج: يجوز ان يكون الجن زادوا الانس، ويجوز أن يكون الانس زادوا الجن رهقاً. والرهق لحاق الاثم، وأصله اللحوق. ومنه راهق الغلام إذا لحق حال الرجال قال الاعشى:

لا شيء ينفعني من دون رؤيتها هل يشتفى وامق ما لم يصب رهقاً

أي لم يعش اثماً. ثم حكى تعالى { وأنهم ظنوا كما ظننتم } معاشر الانس { أن لن يبعث الله أحداً } أي لا يحشره يوم القيامة ولا يحاسبه. وقال الحسن: ظن المشركون من الجن، كما ظن المشركون من الانس { أن لن يبعث الله أحدا } لجحدهم بالبعث والنشور، واستبعدوا ذلك مع اعترافهم بالنشأة الأولى، لانهم رأوا إمارة مستمرة في النشأة الأولى، ولم يروها في النشأة الثانية، ولم ينعموا النظر فيعلموا أن من قدر على النشأة الأولى يقدر على النشأة الاخرى.
وقال قتادة: ظنوا أن لا يبعث الله احداً رسولا.
ثم حكى ان الجن قالت { إنا لمسنا السماء } أي مسسناها بايدينا. وقال الجبائي: معناه إنا طلبنا الصعود الى السماء، فعبر عن ذلك باللمس مجازاً، وانما جاز من الجن تطلب الصعود مع علمهم بأنهم يرمون بالشهب لتجويزهم أن يصادفوا موضعاً يصعدون منه ليس فيه ملك يرميهم بالشهب، او اعتقدوا أن ذلك غير صحيح، ولم يصدقوا من أخبرهم بأنهم رموا حين أرادوا الصعود { فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً } نصب { حرساً } على التمييز و { شديداً } نعته و { شهباً } عطف على { حرساً } فهو نصب ايضاً على التمييز. وتقديره ملئت من الحرس. والشهب جمع شهاب، وهو نور يمتد من السماء من النجم كَالنار. قال الله تعالى
{ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين } والحرس جمع حارس. وقيل: إن السماء لم تحرس قط إلا لنبوة أو عقوبة عاجلة عامة.
ثم حكى أنهم قالوا ايضاً { إنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع، فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً } أي لم يكن فيما مضى منع من الصعود فى المواضع التي يسمع منها صوت الملائكة وكلامهم، ويسمع ذلك، فالآن من يستمع منا ذلك يجد له شهاباً يرمى به ويرصد و { شهاباً } نصب على أنه مفعول به و { رصداً } نعته.
ثم حكى انهم قالوا { وإنا لا ندري } بما ظهر من هذه الآية العجيبة { أشر أريد بمن في الأرض } من الخلق أي اهلاكاً لهم بكفرهم وعقوبة على معاصيهم { أم أراد بهم ربهم رشداً } وهداية إلى الحق بأن بعث نبياً، فان ذلك خاف عنا وقال قوم: إنا الشهب لم تكن قبل النبي صلى الله عليه وآله وإنما رموا به عند بعثه صلى الله عليه وآله وقال آخرون: الشهب معلوم أنها كانت فيما مضى من الزمان، ولكن كثرت في زمن النبي صلى الله عليه وآله وعمت لا أنها لم تكن أصلا. قال البلخي: الشهب كانت لا محالة غير انه لم تكن تمتنع بها الجن عن صعود السماء، فلما بعث النبي صلى الله عليه وآله منع الجن من الصعود.