التفاسير

< >
عرض

نَذِيراً لِّلْبَشَرِ
٣٦
لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ
٣٧
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ
٣٨
إِلاَّ أَصْحَابَ ٱلْيَمِينِ
٣٩
فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ
٤٠
عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ
٤١
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ
٤٢
قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ
٤٣
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ
٤٤
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ
٤٥
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ
٤٦
حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ
٤٧
فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ
٤٨
فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ
٤٩
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ
٥٠
فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ
٥١
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً
٥٢
كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ ٱلآخِرَةَ
٥٣
كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ
٥٤
فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ
٥٥
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ
٥٦
-المدثر

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ نافع وابن عامر وابو جعفر { مستنفرة } بفتح الفاء. الباقون بكسرها ومعناهما متقارب، لان من فتح الفاء أراد أنه نفرها غيرها، ومن كسر الفاء اراد أنها نافرة، وانشد الفراء:

امسك حمارك إنه مستنفر في أثر أحمرة عمدن لغرّب

والنفور الذهاب عن المخوف بانزعاج، نفر عن الشيء ينفر نفوراً فهو نافر، والتنافر خلاف التلاؤم، واستنفر طلب النفور { ومستنفرة } طالبة للنفور. وقرأ نافع ويعقوب { وما تذكرون } بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر
لما اخبر الله تعالى ان الآية التي ذكرها لأحدى الكبر، بين أنه بعث النبي { نذيراً للبشر } أي منذراً مخوفاً معلماً مواضع المخافة، والنذير الحكيم بالتحذير عما ينبغي ان يحذر منه، فكل نبي نذير، لأنه حكيم بتحذيره عقاب الله تعالى على معاصيه. { ونذيراً } نصب على الحال. وقال الحسن: إنه وصف النار وقال ابن زيد: هو وصف النبي. وقال أبو رزين: هو من صفة الله تعالى، فمن قال: هو للنبي قال كأنه قيل: قم نذيراً. وقوله { لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر } معناه إن هذا الانذار متوجه إلى من يمكنه ان يتقي عذاب النار بأن يجتنب معاصيه ويفعل طاعاته، فيقدر على التقدم والتأخر في أمره بخلاف ما يقوله المجبرة الذين يقولون بتكليف ما لا يطاق لمنع القدرة. وقال قتادة: معناه لمن شاء منكم أن يتقدم في طاعة الله أو يتأخر عنها بمعصيته. والمشيئة هي الارادة.
وقوله { كل نفس بما كسبت رهينة } معناه إن كل نفس مكلفة مطالبة بما عملته وكسبته من طاعة او معصية، فالرهن أخذ الشيء بأمر على أن لا يرد إلا بالخروج منه رهنه يرهنه رهناً قال زهير:

وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا

وكذلك هؤلاء الضلال قد أخذوا برهن لا فكاك له. قال الرماني: في ذلك دلالة على القائلين باستحقاق الذم، لانه عم الارتهان بالكسب في هذا الموضع، وهم يزعمون انه يرتهن بأن لم يفعل ما وجب عليه من غير كسب شيء منه، فكانت الآية حجة على فساد مذهبهم. وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لان الذي في الظاهر ان الانسان رهن بما كسبت يداه. ولم يقل: ولا يرهن إلا بما كسب له إلا من جهة دليل الخطاب الذي هو فاسد عند اكثر الاصوليين، على ان الكسب هو ما يجتلب به نفع او يدفع به ضرر، ويدخل في ذلك الفعل، وألا يفعل، فلا تعلق في الآية.
ولما ذكر تعالى أن { كل نفس بما كسبت رهينة } استثنى من جملة النفوس فقال { إلا أصحاب اليمين } والاستثناء منقطع، لان اصحاب اليمين ليسوا من الضلال الذين هم رهن بما كسبوه، وتقديره لكن أصحاب اليمين { في جنات } أي بساتين آجنها الشجر، واصحاب اليمين هم كل من لم يكن من الضالين. وقال الحسن: هم اصحاب الجنة. وقال قوم: هم الذين ليس لهم شيء من الذنوب. وقال قوم: هم اطفال المؤمنين. وقوله { يتساءلون } اى يسأل بعضهم بعضاً { عن المجرمين } العصاه في طاعة الله، فيقولولن لهم { ما سلككم في سقر } أي ما أدخلكم في جهنم فالمجرم هو القاطع بالخروج عن أمر الله ونهيه الى إرتكاب الكبائر من القبيح، والجارم القاطع. والسلوك الدخول. وسقر اسم من اسماء جهنم. ثم حكى ما يجيبهم به اصحاب النار فانهم يقولون لهم: ادخلنا في النال لانا { لم نك من المصلين } أي لم نك نصلي ما أوجب علينا من الصلاة المفروضه على ما قررها الشرع، وفي ذلك دلالة على ان الاخلال بالواجب يستحق به الذم والعقاب، لانهم لم يقولوا انا فعلنا تركاً للصلاة بل علقوا استحقاقهم للعقاب بالاخلال بالصلاة وفيها دلالة على أن الكفار مخاطبون بالعبادة. لان ذلك حكاية عن الكفار بدلالة قوله في آخر الآية { وكنا نكذب بيوم الدين }.
وقوله { ولم نك نطعم المسكين } أي لم نكن نخرج الزكوات التي وجبت علينا، والكفارات التي يلزمنا دفعها الى المساكين. وهم الفقراء، فالمسكين الذي سكنته الحاجة الى ما في ايدي الناس عن حال النشط. وحال الفقير اشد من حال المسكين. قال الله تعالى
{ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } فسماهم الله مساكين مع أن لهم مركباً في البحر قال الشاعر:

أنا الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد

{ وكنا نخوض مع الخائضين } قال قتادة: معناه كلما غوى غاوياً لدخول في الباطل غوينا معه أي كنا نلوث انفسنا بالمرور في الباطل كتلويث الرجل بالخوض فلما كان هؤلاء يخرجون مع من يكذب بالحق مشيعين لهم في القول كانوا خائضين معهم { وكنا } مع ذلك { نكذب بيوم الدين } اي كنا نجحد يوم الجزاء وهو يوم القيامة، فالتكذيب تنزيل الخبر على انه كذب باعتقاد ذلك فيه أو الحكم به، فهؤلاء اعتقدوا ان الخبر يكون يوم الدين كذب. والدين الجزاء، وهو الايصال إلى كل من له شيء او عليه شيء ما يستحقه، فلذلك يوم الدين، وهو يوم الجزاء وهو يوم أخذ المستحق بالعدل. وقوله { حتى أتانا اليقين } معناه حتى جاءنا العلم واليقين الذي يوجد برد الثقة به فى الصدر أو دليله، يقال: وجد فلان برد اليقين وثلج فى صدره، ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه متيقن، فقال الله تعالى لهم { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } الذين يشفعون لهم، لأن عذاب الكفر لا يسقطه الله بالشفاعة، بالاجماع. ثم قال { فما لهم عن التذكرة } أي أي شيء لهم؟ ولم أعرضوا وتولوا عن النبوة والرشد؟! ولم يتعظوا به إلى ان صاروا الى جهة الضلال على وجه الانكار عليهم. ثم شبههم، فقال { كأنهم حمر مستنفرة } أي مثلهم فى النفور عما تدعوهم اليه من الحق واعراضهم، مثل الحمر إذا نفرت ومرت على وجهها إذا { فرت من قسورة } وهو السبع يعني الاسد، يقال نفر، واستنفر، مثل علامتنه واستعلاه وسمع إعرابي رجلا يقرأ { كأنهم حمر مستنفرة } فقال: طلبها قسورة، فقيل له: ويحك إن فى القرآن { فرت من قسورة } قال { مستنفرة } إذاً، فالفرار الذهاب عن الشيء خوفاً منه، فر يفر فراً وفراراً، فهو فار إذا هرب والفار الهارب.
والهرب نقيض الطلب، واصل الفرار الانكشاف عن الشيء، ومنه فر الفرس يفره فراً إذا كشف عن سنه. والقسورة الاسد. وقيل: هو الرامي للصيد. وأصله الأخذ بالشدة من قسره يقسره قسراً أي قهره. وقال ابن عباس: القسورة الرماة وقال سعيد بن جبير: هم القناص. وفى رواية أخرى عن ابن عباس: جماعة الرجال وقال ابو هريرة: هو الاسد. وهو قول زيد بن اسلم، وفى رواية عن ابن عباس وابي زيد: القسور بغير هاء تأنيث،
وقوله { بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة } اخبار من الله تعالى بأنهم ليسوا كالحمر المستنفرة الفارة من القسورة، بل لأن كل رجل منهم يريد أن يعطى صحفاً منشرة. قال الحسن وقتادة ومجاهد: انهم يريدون صحفاً منشرة اي كتباً تنزل من السماء كتاباً إلى فلان وكتاباً الى فلان: أن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله. وقيل: إنهم قالوا كانت بنو إسرائيل إذا اذنب منهم مدنب أنزل الله كتاباً أن فلاناً أذنب فما بالنا لا ينزل علينا مثل ذلك إن كنت صادقاً به؟ والصحف جمع صحيفة، وهي الورقة التي من شأنها ان تقلب من جهة إلى جهة، لما فيها من الكتابة، وتجمع الصحيفة صحفاً وصحائف، ومنه مصحف ومصاحف. والنشر بسط ما كان مطوياً او ملتفاً من غير التحام. وقيل: معناه إنهم يريدون صحفاً من الله تعالى بالبراءة من العقوبة واسباغ النعمة حتى يؤمنوا وإلا أقاموا على أمرهم. وقيل: تفسيره ما ذكره الله تعالى فى قوله
{ ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } فقال الله تعالى { كلا } أي حقاً ليس الأمر على ما قالوه { بل لا يخافون } هؤلاء الكفار { الآخرة } بجحدهم صحته. ثم قال { إنه تذكرة } يعني القرآن تبصرة وموعظة لمن عمل به واتعظ بما فيه، وهو قول قتادة. ثم قال { فمن شاء ذكره } أي من شاء أن يتعظ بما فيه وهو يتذكر به، فعل، لأنه قادر عليه. ثم قال { وما يذكرون إلا أن يشاء الله } من قرأ بالتاء، فعلى الخطاب، ومن قرأ بالياء، فعلى الاخبار عنهم. ومعناه ليس يتذكرون ولا يتعظون بالقرآن إلا ان يشاء الله، ومعناه إلا والله شاءه له، لأنه طاعة والله يريد الطاعات من خلقه. وقوله { هو أهل التقوى وأهل المغفرة } معناه هو اهل ان يتقى عقابه، واهل ان يعمل بما يؤدي الى مغفرته. وقيل: معناه هو اهل ان يغفر المعاصي إذا تاب المذنب من معاصيه.