التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ لاَ وَزَرَ
١١
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ
١٢
يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ
١٣
بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
١٤
وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ
١٥
لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
١٦
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
١٧
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ
١٨
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ
١٩
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ
٢٠
وَتَذَرُونَ ٱلآخِرَةَ
٢١
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ
٢٢
إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
٢٣
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ
٢٤
تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ
٢٥
-القيامة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ { كلا بل يحبون العاجلة ويذرون الآخرة } بالياء فيهما ابن كثير وابو عمرو وابن عامر على وجه الاخبار عنهم. الباقون بالتاء على وجه الخطاب لهم،
لما حكى الله تعالى عن الكافر انه يقول يوم القيامة { أين المفر } والمهرب حكى ما يقال له، فانه يقال له { كلا لا وزر } أي لا ملجأ. والوزر الملجأ من جبل يتحصن به او غيره من الحصون المنيعة. ومنه الوزير المعين الذي يلجأ اليه فى الامور، يقال وزرت الحائط إذا قويته بأساس يعتمد عليه. وقال ابن عباس ومجاهد: لا وزر، معناه لا ملجأ. وقال الحسن: لا جبل، لان العرب إذا دهمتهم الخيل بغتة، قالوا: الوزر، يعنون الجبل، قال ابن الدمينة:

لعمرك ما للفتى من وزر من الموت ينجو به والكَبر

وقال الضحاك: معناه لا حصن. وقيل معناه لا منجا ينجو اليه، وهو مثل الملجأ. ثم قال تعالى { إلى ربك يومئذ المستقر } أي المرجع الذي يقر فيه. ومثله المأوى والمثوى، وخلافه المرتحل. والمستقر على وجهين: مستقر إلى أمد، ومستقر على الابد.
وقوله { ينبؤ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } أي يخبر بجميع ما عمله، وما تركه من الطاعات والمعاصي، فالنبأ الخبر بما يعظم شأنه، وحسن في هذا الموضع لان ما جرى مجرى اللغو والمباح لا يعتد به فى هذا الباب. وإنما الذي يعظم شأنه من عمل الطاعة والمعصية هو ما يستحق عليه الجزاء. فأما ما وجوده كعدمه، فلا اعتبار به. والتقديم ترتيب الشيء قبل غيره. وضده التأخير وهو ترتيب الشيء بعد غيره، ويكون التقديم والتأخير فى الزمان، وفى المكان، وفى المرتبة، كتقديم المخبر عنه في المرتبة، وهو مؤخر فى الذكر، كقولك: فى الدار زيد، وكذلك الضمير فى (غلامه ضرب زيد) وهو مقدم فى اللفظ ومؤخر فى المرتبة. وقال ابن عباس: ينبأ بما قدم من المعصية وأخّر من الطاعة. وقال مجاهد: يعني بأول عمله وآخره. وقال ابن زيد: ما أخذ وترك. وفي رواية عن ابن عباس، وهو قول ابن مسعود: بما قدم قبل موته، وما اخر من سنة يعمل بها بعد موته، وقيل ما قدم وأخر جميع أعماله التي يستحق بها الجزاء.
وقوله { بل الإنسان على نفسه بصيرة } أي شاهد على نفسه بما تقوم به الحجة - ذكره ابن عباس - كما يقال: فلان حجة على نفسه. وقد قال تعالى
{ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } وقال الزجاج: معناه بل الانسان تشهد عليه جوارحه كما قال { يوم تشهد عليهم } والهاء فى { بصيرة } مثل الهاء فى (علامة) للمبالغة. وقيل شهادة نفسه عليه اولى من اعتذاره. وقيل تقديره بل الانسان على نفسه من نفسه بصيرة: جوارحه شاهدة عليه يوم القيامة ولو اعتذر كان شاهداً عليه من يكذب عذره. وقوله { ولو ألقى معاذيره } معناه ولو اقام الاعتذار عند الناس، وفى دار التكليف واستسر بالمعاصي بارخاء الستر. وقال ابن عباس: معناه ولو اعتذر. وقال السدي: معناه ولو ارخى الستور وأغلق الأبواب. وقال الزجاج: معناه لو أتى بكل حجة عنده. والمعاذير التنصل من الذنوب بذكر العذر، واحدها معذرة من قوله { لا ينفع الظالمين معذرتهم } وقيل: المعاذير ذكر مواقع تقطع عن الفعل المطلوب. والعذر منع يقطع عن الفعل بالأمر الذي يشق. والاعتذار الاجتهاد فى تثبيت العذر.
وقوله { لا تحرك به لسانك لتعجل به } قال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك: كان النبي صلى الله عليه وآله إذا نزل عليه القرآن عجل بتحريك لسانه لحبه إياه، فنهاه الله عن ذلك. والتحريك تغيير الشيء من مكان إلى مكان او من جهة الى جهة بفعل الحركة فيه، والحركة ما به يتحرك المتحرك. والمتحرك هو المنتقل من جهة الى غيرها. واللسان آلة الكلام. والعجلة طلب عمل الشيء قبل وقته الذي ينبغي أن يعمل فيه. ونقيضه الابطاء، والسرعة عمل الشيء فى أول وقته الذي هو له، وضده الاناة.
وقوله { إن علينا جمعه وقرآنه } قال ابن عباس والضحاك: معناه ان علينا جمعه فى صدرك، وقراءته عليك حتى يمكنك تلاوته. وقال قتادة: معناه إن علينا جمعه فى صدرك وتأليفه على ما نزل عليك. وقال ابن عباس - فى رواية اخرى - إن معناه إن علينا بيانه من حلاله وحرامه بذكره لك. وقال قتادة: معناه نذكر احكامه ونبين لك معناه إذا حفظته. وقال البلخي: الذي أختاره انه لم يرد القرآن وإنما اراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة، لان ما قبله وبعده يدل على ذلك، وليس فيه شيء يدل على انه القرآن، ولا على شيء من أحكام الدنيا، وفى ذلك تقريع للعبد وتوبيخ له حين لا تنفعه العجلة. والقرآن من الضم والتأليف، قال عمرو بن كلثوم:

ذراعي عيطل أدماء بكر هجان اللون لم تقرأ جنينا

أي لم تضم رحماً على ولد. وقوله { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } قال ابن عباس: معناه إذا قرأناه أي تلوناه فاتبع قراءته بقرائتك، وقال قتادة والضحاك: معناه بأن يعمل بما فيه من الاحكام والحلال والحرام. وقيل: معناه فاذا قرأه جبرائيل عليك فاتبع قراءته. والاتباع مراجعة الثاني للاول في ما يقتضيه، ومثله الاقتداء والاحتذاء والائتمام، ونقيضه الخلاف. والبيان إظهار المعنى للنفس بما يتميز به من غيره بان الشيء يبين إذا ظهر وأبانه غيره أي اظهره بياناً وإبانة، ونقيض البيان الاخفاء والاغماض. وقال قتادة { ثم إن علينا بيانه } معناه إنا نبين لك معناه إذا حفظته.
وقوله { كلا بل تحبون العاجلة } معناه الاخبار من الله تعالى أن الكفار يريدون المنافع العاجلة ويركنون اليها ويريدونها { وتذرون الآخرة } أي وتتركون عمل الآخرة الذي يستحق به الثواب، وتفعلون ما يستحق به العقاب من المعاصي والمحارم.
ثم قسم تعالى اهل الآخرة فقال { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } أي مشرقة مضيئة، فالنضرة الصورة الحسنة التي تملأ القلب سروراً عند الرؤية نضر وجهه ينضر نضرة ونضارة فهو ناضر. والنضرة مثل البهجة والطلاقة، وضده العبوس والبسور، فوجوه المؤمنين المستحقين للثواب بهذه الصفة بما جعل الله عليها من النور علامة للخلق، والملائكة على انهم مؤمنون مستحقون الثواب. وقوله { إلى ربها ناظرة } معناه منتظرة نعمة ربها وثوابه ان يصل اليهم. وقيل { ناضرة } أي مشرفة { إلى } ثواب ربها { ناظرة } وليس فى ذلك تنغيص لان الانتظار إنما يكون فيه تنغيص إذا كان لا يوثق بوصوله الى المنتظر أو هو محتاج اليه فى الحال. والمؤمنون بخلاف ذلك، لانهم فى الحال مستغنون منعمون، وهم ايضاً واثقون انهم يصلون الى الثواب المنتظر. والنظر هو تقليب الحدقة الصحية نحو المرئي طلبا للرؤية ويَكون النظر بمعنى الانتظار، كما قال تعالى
{ وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة } أى منتظرة وقال الشاعر:

وجوه يوم بدر ناظرات الى الرحمن تأتي بالفلاح

أى منتظرة للرحمة التي تنزل عليهم، وقد يقول القائل: انما عيني ممدودة الى الله، والى فلان، وانظر اليه أى انتظر خيره ونفعه وأؤمل ذلك من جهته، وقوله { ولا ينظر إليهم يوم القيامة } معناه لا ينيلهم رحمته. ويكون النظر بمعنى المقابلة، ومنه المناظرة في الجدل، ومنه نظر الرحمة أى قابله بالرحمة، ويقال: دور بني فلان تتناظر أى تتقابل، وهو ينظر الى فلان أى يؤمله وينتظر خيره، وليس النظر بمعنى الرؤية اصلا، بدلالة انهم يقولون: نظرت الى الهلال فلم أره فلو كان بمعنى الرؤية لكان متناقضاً، ولانهم يجعلون الرؤية غاية للنظر يقولون: ما زلت أنظر اليه حتى رأيته، ولا يجعل الشيء غاية لنفسه لا يقال: ما زلت أراه حتى رأيته، ويعلم الناظر ناظراً ضرورة، ولا يعلم كونه رائياً بل يسأل بعد ذلك هل رأيت أم لا؟ ودخل "إلى" فى الآية لا يدل على ان المراد بالنظر الرؤية، ولا تعليقه بالوجوه يدل على ذلك، لانا أنشدنا البيت، وفيه تعليق النظر بالوجه وتعديه بحرف (الى) والمراد به الانتظار، وقال جميل بن معمر:

وإذا نظرت اليك من ملك والبحر دونك جدتني نعماء

والمراد به الانتظار والتأميل، وايضاً، فانه فى مقابلة قوله في صفة اهل النار { تظن أن يفعل بها فاقرة } فالمؤمنون يؤمنون بتجديد الكرامة وينتظرون الثواب، والكفار يظنون الفاقرة، وكله راجع الى فعل القلب، ولو سلمنا أن النظر يعد الرؤية لجاز أن يكون المراد أنها رؤية ثواب ربها، لأن الثواب الذي هو انواع اللذات من المأكول والمشروب والمنكوح تصح رؤيته، ويجوز ايضاً أن يكون إلى واحد إلآ لاء وفى واحدها لغات (ألا) مثل قفا، و (ألى) مثل معى و (إلى) مثل حدى و (ألى) مثل حسى، فاذا اضيف الى غيره سقط التنوين، ولا يكون (الى) حرفاً فى الآية وكل ذلك يبطل قول من أجاز الرؤية على الله تعالى.
وليس لأحد ان يقول: إن الوجه الأخير يخالف الاجماع، أعني اجماع المفسرين، وذلك لأنا لا نسلم لهم ذلك، بل قد قال مجاهد وابو صالح والحسن وسعيد بن جبير والضحاك: إن المراد نظر الثواب. وروي مثله عن علي عليه السلام، وقد فرق اهل اللغة بين نظر الغضبان ونظر الراضي، يقولون: نظر غضبان، ونظر راض، ونظر عداوة ونظر مودّة، قال الشاعر:

تخبرني العينان ما الصدر كاتم ولا حن بالبعضاء والنظر الشزر

والرؤية ليست كَذلك فانهم لا يضيفونها، فدل على أن النظر غير الرؤية، والمرئي هو المدرك، والرؤية هي الادراك بالبصر، والرائي هو المدرك، ولا تصح الرؤية وهي الادراك إلا على الاجسام او الجوهر او الألوان. ومن شرط المرئي أن يكون هو او محله مقابلا او في حكم المقابل، وذلك يستحيل عليه تعالى، فكيف تجيز الرؤية عليه تعالى؟!!!
ثم ذكر القسم الآخر فقال { وجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة } يعني وجوه اهل الكفر. والبسور ظهور حال الغم فى الوجه معجلا قبل الاخبار عنه ومثله العبوس إلا انه ليس فيه معنى التعجيل. والفاقرة الكاسرة لفقار الظهر بشدة ومثل الفاقرة الداهية والآبدة. وقال الحسن: ناظرة بهجة حسنة. وقال مجاهد: مسرورة. وقال ابن زيد: ناعمة. وقال مجاهد وقتادة: معنى باسرة كاشرة كالحة. وقال مجاهد: الفاقرة الداهية. وقال ابن زيد الآبدة بدخول النار.