التفاسير

< >
عرض

فَوَقَٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً
١١
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً
١٢
مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَىٰ ٱلأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً
١٣
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً
١٤
وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ
١٥
قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً
١٦
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً
١٧
عَيْناً فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلاً
١٨
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً
١٩
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً
٢٠
-الإنسان

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ الشعبي وعبيد بن عمير { قدروها } بضم القاف. الباقون بفتحها. من فتح القاف قال معناه قدروها فى أنفسهم، فجاءت كما قدروا، ومن ضم أراد ان ذلك قدر لهم أي قدره الله لهم كذلك. قرأ نافع والكسائي وابو بكر عن عاصم (قواريراً قواريراً) بالتنوين فيهما. وقرأ بغير تنوين ولا الف فى الوقف حمزة وابن عامر، وقرأ الاولى بالتنوين والثانية بغير تنوين ابن كثير. وقرأ ابو عمرو فيهما بغير تنوين إلا انه يقف عليه بالألف. من نون الأولى اتبع المصحف، ولانه رأس آية، ثم كرهوا أن يخالفوا بينهما فنونوا الثانية، وكذلك قرأ الكسائي { ألا إن ثموداً كفروا ربهم ألا بعداً لثمود } صرفهما لئلا يخالف بينهما مع قربهما، ومن لم يصرفهما فعلى موجب العربية، لانه جمع على (فواعيل) بعد ألفه حرفان. ومن صرف الاولى فلأنها رأس آية ولم يصرف الثانية على أصل العربية.
لما اخبر الله تعالى عن المؤمنين الذين وصفهم فى الآيات الأولى وما اوفوا به من النذر فى إطعامهم لوجه الله ما اطعموه وإيثارهم على نفوسهم المسكين واليتيم والاسير وإنهم فعلوا ذلك لوجه الله خالصاً، ومخافة من عذاب يوم القيامة، اخبر بما أعد لهم من الجزاء على ذلك، فقال { فوقاهم الله شر ذلك اليوم } أي كفاهم الله ومنع عنهم أهوال يوم القيامة وشدائده، فالوقاء المنع من الأذى يقال: وقاه يقيه وقاء، فهو واق، ووقّاه توقية قال رؤبة.

إن الموقّي مثل ما وقيت

ومنه اتقاه اتقاء وتوقاه توقياً، والشر ظهور الضرّ، وأصله الظهور من قولهم:

وحتى أشرت بالأكف المصاحف

أي اظهرت، ومنه شررت الثوب إذا اظهرته للشمس او الريح، ومنه شرار النار لظهوره بتطايره وانتشاره، وقيل: الشر الضر والقبيح، ويستعار فى غيره، وليس ما يوجب هذا. والمراد - ها هنا - أهوال يوم القيامة وشدائده فالوقاء المنع من الأذى يقال: وقاه يقيه وقاء فهو واق ووقاه توقية وقوله { ولقاهم نضرة وسروراً } معنى لقاهم استقبلهم به، والنضرة حسن الألوان، ومنه نبت نضر وناضر ونضر والنضار الذهب. وقيل: ناضرة ناعمة. وقيل: حسنة الصورة. والسرور اعتقاد وصول المنافع اليه فى المستقبل. وقال قوم: هو لذة في القلب بحسب متعلقه بما فيه النفع، سره يسره سروراً وكل سرور فلا بد له من متعلق، كالسرور بالمال والولد والسرور بالا كرام والاجلال، والسرور بالشكر والحمد، والسرور بالثواب.
وقوله { وجزاهم بما صبروا } أي كافاهم واثابهم على صبرهم على محن الدنيا وشدائدها وتحمل مشاق التكليف { جنة } أي بستاناً أجنه الشجر { وحريراً } يلبسونه. وقوله { متكئين } نصب على الحال { فيها } يعني في الجنة { على الأرائك } وهي الحجال فيها الاسرة - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة - واحدها اريكة وهي الحجلة سرير عليه شبه القبة. وقال الزجاج: الاريكة كل ما يتكأ عليه من مسورة أو غيرها، وقد شوق الله تعالى إلى تلك الحال وهي غاية الرفاهية والامتاع { لا يرون فيها } يعني في الجنة { شمساً } يتأذون بحرّها { ولا زمهريراً } يتأذون ببرده، فالزمهرير اشد ما يكون من البرد، وقال مجاهد: الزمهرير البرد الشديد
وقوله { ودانية عليهم ظلالها } يعني افياء اشجار تلك الجنة قريبة منهم، ونصب { دانية } بالعطف على { متكئين } ويجوز ان يكون عطفاً على موضع { لا يرون فيها شمساً } فان موضعها النصب على الحال، ويجوز على المدح كقولهم عند فلان جارية جميلة وشابة طرية. وقوله { وذللت قطوفها تذليلا } معناه إن قام ارتفعت بقدرة الله وإن قعد نزلت حتى ينالها وإن اضطجع نزلت حتى ينالها - ذكره مجاهد - وقيل: معناه لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك.
وقوله { ويطاف عليهم } يعني على هؤلاء المؤمنين الذين وصفهم الله { بآنية من فضة وأكواب } وهو جمع كَوب وهو إناء الشراب من غير عروة. وقال مجاهد: الاكواب الأقداح. وقال ابن عباس ومجاهد: هي صغار القوارير وهي فضة، فلذلك قال { كانت قواريراً } وقيل: الاكواب الأباريق التي ليس لها خراطيم. وقيل: الاكواب من فضة فى صفاء القوارير لا تمنع الرؤية. وقوله { قوارير من فضة } أي هي من فضة. وقوله { قدّروها تقديراً } معناه إنها على قدر ما يشتهون من غير زيادة ولا نقصان حتى تستوفي الكمال، ويجوز ان يكونوا قدّروها قبل مجيئها على صفة فجاءت على ما قدروا جنسه لشبه التمنى، وقال الحسن: على قدرهم، والتقدير وضع المعنى على المقدار الذي يتخيل فيه المساواة للاعتبار بالمعاني العقلية بقدر عرف التقدير على طريقة لو كان كذا لكان كذا، وإذا كان كذا كان كذا، وبهذا يظهر القياس يميز به ما يلزم على الأصل مما لا يلزم، والطوف الدور بالنقل من واحد إلى واحد. وقد يكون الدور بالطبع من غير تنقل من واحد إلى آخر، فلا يكون طوافاً، طاف يطوف طوفاً، واطاف بها إطافة وتطوف تطوفاً واطوف اطوافاً
وقوله { ويسقون فيها } يعني فى الجنة { كأساً } وهي الآنية إذا كان فيها شراب { كان مزاجها زنجبيلاً } فالزنجبيل ضرب من القرفة طيب الطعام يلذع اللسان يربى بالعسل يستدفع به المضار إذا مزج به الشراب فاق فى الالذاذ. والعرب تستطيب الزنجبيل جداً قال الشاعر:

كأن القرنفل والزنجبيـــ ــل باتا بفيها واريا مشورا

قيل: إن هذا الشراب فى برد الكافور وذكاء المسك ولذع الزنجبيل، كما قال فى صفة القوارير إنها فى صفاء الفضة وجوهرها يرى ما وراءها كالقوارير. وقيل: الكافور والزنجبيل من اسماء العين التي يسقون منها وقوله { عيناً } نصب على انه بدل من الزنجبيل { فيها تسمى سلسبيلا } فالسلسبيل الشراب السهل اللذيذ، وقيل: سلسبيل معناه منقاد ماؤها حيث شاؤا - عن قتادة - وقيل شديد الحربة. وقيل: يتسلسله. وقيل: سمي سلسبيلا من لزوم الطيب والالذاذ بها، وانشد يونس:

صفراء من نبع يسمى سهمها من طول ما صرع الصيود الصيب

فرفع الصيب على صفة السهم. وقيل: اسم العين معرفة إلا أنه نون لأنه رأس آية. ثم قال { ويطوف عليهم ولدان مخلدون } قال قتادة: لا يموتون. وقال الحسن: خلدوا على هيئة الوصفاء، فلا يشبون أبداً. وقيل: مخلدون مستورون بلغة حمير قال بعض شعرائهم:

ومخلدات باللجين كأنما اعجازهن اقاوز الكثبان

وكأنه يرجع الى بقاء الحسن { إذا رأيتهم } يعني إذا رأيت هؤلاء الولدان { حسبتهم لؤلؤاً منثوراً } أي من كثرتهم وحسنهم، فكأنهم اللؤلؤ المنثور - ذكره قتادة - وقوله { وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكَاً كبيراً } تقديره وإذا رأيت الأشياء ثم رأيت نعيماً لأهل الجنة عظيماً وملكَاً كبيراً. قال سفيان: من الملك الكَبير استئذان الملائكة عليهم واستقبالهم لهم بالتحية. وقوله { وإذا رأيت ثم } فـ "ثم" يريد به الجنة. والعامل فيه معنى "رأيت" وتقديره وإذا رأيت ببصرك ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً. وقال الفراء: وإذا رأيت ما ثم رأيت نعيماً. وانكره الزجاج وقال (ما) موصولة يتم على تفسيره، ولا يجوز اسقاط الموصول مع بقاء الصلة، ولكن (رأيت) متعد فى المعنى إلى (ثم).