التفاسير

< >
عرض

هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً
١
إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً
٢
إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً
٣
إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً
٤
إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً
٥
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً
٦
يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً
٧
وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً
٨
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً
٩
إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً
١٠
-الإنسان

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ { سلاسلاً } منوناً نافع والكسائي وابو بكر عن عاصم اتباعا للمصحف ولتشاكل ما جاوره من رأس الآية. الباقون بغير تنوين، لان مثل هذا الجمع لا ينصرف في معرفة ولا في نكرة، لأنه على (فعائل) بعد الفه حرفان.
يقول الله تعالى { هل أتى على الإنسان } قال الزجاج: معناه ألم يأت على الانسان { حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً } يعني قد كان شيئاً إلا انه لم يكن مذكوراً، لانه كان تراباً وطيناً الى أن نفخ فيه الروح. وقال قوم { هل } يحتمل معناه أمرين: احدهما - أن يكون بمعنى (قد أتى) والثاني أن يكون معناها اتى على الانسان، والاغلب عليها الاستفهام والاصل فيها معنى (قد) لتجرى على نظائرها بمعنى ضمن معنى الالف واصله من ذلك قول الشاعر:

أم هل كبير بكى لم تقض عبرته أثر الأحبة يوم البين مشكوم

والمعنى بالانسان - ها هنا - آدم - فى قول الحسن - والمعنى قد أتى على آدم { حين من الدهر } وبه قال قتادة وسفيان. وقيل: ان آدم لما خلق الله جثته بقي أربعين سنة لم تلج فيه الروح كان شيئاً، ولم يكن مذكوراً، فلما نفخ فيه الروح وبلغ إلى ساقه كاد ينهض للقيام، فلما بلغ عينيه ورأى ثمار الجنة بادر اليها ليأخذها فلذلك قال الله تعالى { خلق الإنسان من عجل } وقال غيره: هو واقع على كل إنسان، والانسان في اللغة حيوان على صورة الانسانية، وقد تكون الصورة الانسانية، ولا إنسان، وقد يكون حيوان ولا إنسان، فاذا حصل المعنيان صح إنسان لا محالة. والانسان حيوان منتصب القامة على صورة تنفصل من كل بهيمة. و (الحين) مدة من الزمان، وقد يقع على القليل والكثير. قال الله سبحانه { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون } أي وقت تمسون ووقت تصبحون. وقال { تؤتي أكلها كل حين } يعني كل ستة أشهر، وقال قوم: كل سنة. وقال - ها هنا { هل أتى على الإنسان حين } أي مدة طويلة. والدهر مرور الليل والنهار وجمعه أدهر ودهور، والفرق بين الدهر والوقت أن الوقت مضمن بجعل جاعل، لان الله جعل لكل صلاة مفروضة وقتاً، وجعل للصيام وقتاً معيناً، وقد يجعل الانسان لنفسه وقتاً يدرس فيه ما يحتاج إلى درسه ووقتاً مخصوصاً لغذائه.
وقوله { لم يكن شيئاً مذكوراً } أي لم يكن ممن ذكره ذاكر، لأنه كان معدوماً غير موجود، وفي الآية دلالة على أن المعدوم لا يسمى شيئاً، وإنما سمى زلزلة الساعة شيئاً مجازاً. والمعنى إنها إذا وجدت كانت شيئاً عظيماً.
وقوله { إنا خلقنا الإنسان من نطفة } اخبار من الله تعالى أنه خلق الانسان سوى آدم وحواء من نطفة، وهو ماء الرجل والمرأة الذي يخلق منهما الولد، فالنطفة الماء القليل في أناء كان او غير إناء قال الشاعر:

وما النفس إلا نطفة بقرارة إذا لم تكدّر صار صفواً غديرها

وقوله { أمشاج } قال ابن عباس أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة. وقال الحسن والربيع بن أنس ومجاهد مثل ذلك. وقال قتادة: معنى أمشاج أطوار طوراً نطفة وطوراً مضغة وطوراً عظماً إلى أن صار إنساناً ليختبره بهذه الصفات. وقال مجاهد: معناه ألوان النطفة. وقال عبد الله: عروق النطفة وواحد الامشاج مشيج، وهو الخلط، وسمى النطفة بذلك، لأنه جعل فيها اخلاطاً من الطبائع التي تكون في الانسان من الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة. ثم عداها له، ثم بناه البنية الحيوانية المعدلة الاخلاط. ثم جعل فيها الحياة ثم شق له السمع والبصر فتبارك الله رب العالمين، وذلك قوله { فجعلناه سميعاً بصيراً }.
وقوله { نبتليه } أي نختبره بما نكلفه من الافعال الشاقة لننظر ما طاعته وما عصيانه فنجازيه بحسب ذلك، ويقال مشجت هذا بهذا إذا خلطته به، وهو ممشوج به ومشيج أي مخلوط به قال رؤبة:

يطرحن كل معجل نشاج لم تكس جلداً فى دم أمشاج

وقال ابو ذؤيب:

كأن الريش والفوقين منه خلاف النصل سيط به مشيج

وقوله { إنا هديناه السبيل } معناه انا أرشدناه إلى سبيل الحق وبيناه له ودللناه عليه. وقال الفراء: معناه هديناه إلى السبيل أو للسبيل. والمعنى واحد. وقوله { إما شاكراً وإما كفوراً } قال الفراء: معناه إن شكر وإن كفر على الجزاء ويجوز أن يكون مثل قوله { إما يعذبهم وإما يتوب عليهم } والمعنى اما يختار بحسن اختياره الشكر لله تعالى والاعتراف بنعمه فيصيب الحق، واما أن يكفر نعمه ويجحد إحسانه فيكون ضالا عن الصواب، وليس المعنى انه مخير فى ذلك، وإنما خرج ذلك مخرج التهديد، كما قال { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } بدلالة قوله { إنا أعتدنا للظالمين ناراً } وإنما المراد البيان عن انه قادر عليهما فايهما اختار جوزي بحسبه.
وفي الآية دلالة على انه تعالى قد هدى جميع خلقه المكلفين، لأن قوله { إنا هديناه السبيل } عام في جملتهم وذلك يبطل قول المجبرة: إن الله لم يهد الكافر بنصب الدلالة له على طريق الحق واجتناب الباطل، وليس كل من ترك الشكر كان كافراً، لانه قد يترك فى بعض الاحوال على سبيل التطوع، لان الشكر قد يكون تطوعاً كما يكون واجباً، وإنما لم يذكر الله الفاسق، لانه اقتصر على اعظم الحالين وألحق الأدون على التبع، ويجوز أن يدخل فى الجملة، ولا يفرد، فليس للخوارج أن يتعلقوا بذلك فى انه ليس بين الكفر والايمان واسطة. ثم بين انه تعالى إنما ذكره على وجه التهديد بقوله { إنا أعتدنا للكافرين } أي ادخرنا لهم جزاء على كفرهم ومعاصيهم وعقوبة لهم { سلاسل وأغلالا وسعيراً } يعذبهم بها ويعاقبهم فيها، والسلاسل جمع سلسلة والاغلال جمع غل، والسعير هي النار المسعرة الملهبة.
ولما اخبر بما للكافرين من العقوبات على كفرهم، ذكر ايضاً ما للمؤمنين على إيمانهم فقال { إن الأبرار } وهو جمع البر، وهو المطيع لله المحسن فى أفعاله { يشربون من كأس } والكاس اناء الشراب إذا كان فيه، ولا يسمى كأساً إذا لم يكن فيه شراب - ذكره الزجاج - قال الشاعر:

صددت الكأس عنا أم عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا

وقوله { كان مزاجها كافوراً } قيل ما يشم من ريحها لا من جهة طعمها. وقوله { عيناً يشرب بها عباد الله } قوله { عيناً } نصب على البدل من { كافوراً } ويجوز أن يكون على تقدير ويشربون عيناً، ويجوز أن يكون نصباً على الحال من { مزاجها } وقال الزجاج: معناه من عين. وقال الفراء: شربها وشرب منها سواء فى المعنى كما يقولون: تكلمت بكلام حسن وكلاماً حسناً. وقيل: يمزج بالكافور، ويختم بالمسك وقيل: تقديره يشربون بها وأنشد الفراء:

شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج

متى لجج. أي من لجج. وعين الماء حفيرة في الأرض ينبع منها، وهذه العين المذكورة فى أرض الجنة في كونها فوارة بالماء متعة لاهلها. ثم يفجر فيجري لهم إلى حيث شاؤا منها. قال مجاهد: معناه إنهم يقودونها حيث شاؤا والتفجير تشقيق الأرض بجري الماء ومنه انفجار الصبح، وهو انشقاقه من الضوء، ومنه الفجور، وهو الخروج من شق الالتئام إلى الفساد. وعباد الله المراد به المؤمنون المستحقون للثواب.
ثم وصف هؤلاء المؤمنين فقال { يوفون بالنذر ويخافون } ويجوز أن يكون ذلك في موضع الحال، فكأنه قال يشرب بها عباد الله الموفون بالنذر الخائفون { يوماً كان شره مستطيراً } فالمستطير الظاهر. والتقدير القائلون إنما نطعمكم القائلون إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً فمطريراً، ويجوز ان يكون على الاستئناف، وتقديره هم الذين يوفون بالنذر وكذلك في ما بعد، فالوفاء بالنذر هو أن يفعل ما نذر عليه فالوفاء إمضاء العقد على الأمر الذي يدعو اليه العقل، ومنه قوله
{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } أي الصحيحة، لانه لا يلزم أحداً أن يفي بعقد فاسد، وكل عقد صحيح يجب الوفاء به، يقال أوفى بالعقد، ووفى به، فأوفى لغة أهل الحجاز وهي لغة القرآن، و (وفى) لغة أهل تميم واهل نجد، وقد بينا فيما مضى شواهده. والنذر عقد على فعل على وجه البر بوقوع أمر يخاف ألا يقع، نذر ينذر نذراً فهو ناذر، وقال عنترة:

الشاتمي عرضي ولم أشتمهما والناذرين إذا لم ألقهما دمي

أي يقولان: لئن لقينا عنترة لنقتلنه، ومنه الانذار وهو الاعلام بموضع المخافة ليعقد على التحرز منها. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال "لا نذر في معصية" وعند الفقهاء إن كفارة النذر مثل كفارة اليمين. والذي رواه أصحابنا إن كفارة النذر مثل كفارة الظهار، فان لم يقدر عليه كان عليه كفارة اليمين. والمعنى انه إذا فات الوقت الذي نذر فيه صار بمنزلة الحنث.
وقوله { ويخافون يوماً } من صفة المؤمنين { كان شره مستطيراً } أي منتشراً فاشياً ذاهباً فى الجهات بلغ أقصى المبالغ، قال الاعشى:

فبانت وقد أورثت فى الفؤا د صدعاً على نأيها مستطيرا

والمراد بالشر - ها هنا - أهوال القيامة وشدائدها.
وقوله { ويطعمون الطعام على حبه } قال مجاهد: معناه على شهوتهم له، ويحتمل أن يكون المراد على محبتهم لله { مسكيناً } أي يطعمونه فقيراً { ويتيماً } وهو الذي لا والد له من الاطفال { وأسيراً } والاسير هو المأخوذ من أهل دار الحرب - فى قول قتادة - وقال مجاهد: وهو المحبوس. وقوله { إنما نطعمكم لوجه الله } اخبار عما يقوله المؤمنون بأنا إنما نطعمكم معاشر الفقراء واليتامى والاسرى لوجه الله، ومعناه لله، وذكر الوجه لذكره بأشرف الذكر تعظيماً له، ومنه قوله { فأينما تولوا فثم وجه الله } وقيل: معناه فثم جهة الله التي ولاكم اليها ومنه قوله
{ { ويبقى وجه ربك } أي ويبقى الله. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: علم الله ما في قلوبهم فأثنى عليهم من غير أن يتكلموا به { لا نريد منكم جزاء } أي لا نطلب بهذا الاطعام مكافأة عاجلة { ولا شكوراً } أي لا نطلب أن تشكرونا عليه عند الخلائق بل فعلناه لله { إنا نخاف من ربنا } أي من عقابه { يوماً عبوساً } أي مكفهراً عابساً { قمطريراً } أي شديداً، والقمطرير الشديد فى الشر. وقد اقمطر اليوم اقمطراراً، وذلك أشد الايام وأطوله فى البلاء والشر، ويوم قمطرير وقماطير كأنه قد التف شر بعضه على بعض، قال الشاعر:

بني عمنا هل تذكرون بلاءنا عليكم إذا ما كان يوم قماطر

وقد روت الخاصة والعامة أن هذه الآيات نزلت فى علي عليه السلام وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فانهم آثروا المسكين واليتيم والاسير ثلاث ليال على إفطارهم وطووا عليهم السلام، ولم يفطروا على شيء من الطعام فأثنى الله عليهم هذا الثناء الحسن، وأنزل فيهم هذه السورة وكفاك بذلك فضيلة جزيلة تتلى الى يوم القيامة، وهذا يدل على أن السورة مدنية.