التفاسير

< >
عرض

عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً
٢١
إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً
٢٢
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ تَنزِيلاً
٢٣
فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً
٢٤
وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
٢٥
وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً
٢٦
إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً
٢٧
نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً
٢٨
إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً
٢٩
وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
٣٠
يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَٱلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
٣١
-الإنسان

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ { عاليهم } باسكان الياء أهل المدينة وحمزة وعاصم - فى رواية حفص وأبان والمفضل - جعلوه اسماً لا ظرفاً كما تقول: فوقك واسع ومنزلك باب البرد، بأن يجعل الباب هو المنزل، وكذلك يجعل الثياب هي العالي. الباقون بالنصب على الظرف، لانه ظرف مكان. وهو الاحسن، لان الثاني غير الأول. وإنما يجوز فى مثل ما كان آخر الكلام هو الأول كقولهم: أمامك صدرك، وفوقك رأسك، فان قلت فوقك السقف وأمامك الأسد بالنصب لا غير. وقرأ نافع وحفص عن عاصم { خضر واستبرق } بالرفع فيهما. وقرأ حمزة والكسائي بالجر فيهما. وقرأ ابن كثير وعاصم - فى رواية أبي بكر { خضر } جراً { واستبرق } رفعاً. وقرأ ابن عامر وابو عمرو { خضر } رفعاً و { استبرق } جراً، من رفعهما جعل { خضر } نعتاً للثياب، وعطف عليه { واستبرق } ومن جرهما جعل { خضر } من نعت { سندس } وعطف عليه { استبرق } وتقديره عاليهم ثياب استبرق. ومن رفع الأول جعله من نعت الثياب وجر الثاني على انه عطف على { سندس } كأن عليهم ثياب سندس. ومن جعل { خضر } نعتاً لـ { سندس }، فلانه اسم جنس يقع على الجميع، فلذلك قال { خضر } ومن جعله نعتاً للثياب فعلى اللفظ. وقرأ ابن كثير وابو عمرو { وما يشاؤن } بالياء على الخبر عن الغائب. الباقون بالتاء على الخطاب.
لما قال الله تعالى على وجه التعظيم لشأن المؤمنين الذين وصفهم وعظم ما اعطوا من أنواع النعيم والولدان وأنواع الشراب وغير ذلك مما وصف، ووصف ذلك بأنه ملك كبير قال { عاليهم } وقيل معناه عالي حجالهم السندس. وفى نصب { عاليهم } قولان: قال الفراء: هو نصب على الظرف كقولك: فوقهم، وحكى إن العرب تقول: قومك داخل الدار. وانكر الزجاج ذلك، وقال نصبه لا يجوز إلا على الحال من الضمير فى { عاليهم } أو من ضمير الولدان في { رأيتهم } وإنما أنكر ذلك لأنه ليس باسم مكان كقولك هو خارج الدار وداخل الدار، وهذا لا يجوز على الظرف عند سيبويه، وما حكاه الفراء شاذ لا يعول عليه. ومن أسكن الياء أراد رفعه على الابتداء وخبره { ثياب سندس } والسندس الديباج الرقيق الفاخر الحسن وهو (فعلل) مثل برثن. وقوله { خضر } فمن جر جعله صفة لـ { سندس } خضر ووصف { سندس } بخضر وهو لفظ جمع، لان سندساً اسم جنس يقع على الكثير والقليل. ومن رفعه جعله نعتاً لـ { ثياب } كأنه قال: ثياب خضر من سندس. وقوله "واستبرق" من رفعه عطفه على "ثياب سندس" فكأنه قال عاليهم ثياب سندس، وعاليهم استبرق. ومن جره عطفه على "سندس" فكأنه قال: عاليهم ثياب سندس وثياب استبرق.
والاستبرق الديباج الغليظ الذي له بريق، فهم يتصرفون فى فاخر اللباس كما يتصرفون فى لذيذ الطعام والشراب. وقيل الاستبرق له غلظ الصفاقة لا غلظ السلك كغلظ الديبقي، وإن كان رقيق السلك.
وقوله { وحلوا أساور من فضة } فالتحلية الزينة بما كان من الذهب والفضة والتحلية تكون للانسان وغير الانسان كحلية السيف وحلية المركب والفضاضة الشفافة هي التي يرى ما وراءها كما يرى البلورة، وهي أفضل من الدرّ والياقوت، وهما افضل من الذهب فتلك الفضة افضل من الذهب، والفضة والذهب فى الدنيا هما أثمن الاشياء، وإن كان قد ثمن بغيرهما شاذاً. وقيل: يحلون الذهب تارة وتارة الفضة ليجمعوا محاسن الحلية، كماقال تعالى
{ يحلون فيها من أساور من ذهب } والفضة وإن كانت دنية فى الدنيا، فهي فى غاية الحسن خاصة إذا كانت بالصفة التي ذكرها والغرض فى الآخرة ما يكثر الالتذاذ والسرور به لا باكثر الثمن، لانه ليست هناك أثمان. وفى الناس من ترك صرف { استبرق } وهو غلط، لأن الاعجمي إذا عرب فى حال تنكيره انصرف، ودليله الاستبرق وهما مما يحكى عن ابن محيص.
وقوله { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } قيل معناه يسقون شراباً طهوراً ليس كالذي يخالطه الانجاس من أنهار الدنيا. وإن قل ذلك وكان مغموراً. وقيل انه ليس كشراب الدنيا الذي قد نجسه الفساد الذي فيه، وهو السكر الداعي إلى القبائح، فقد طهره الله فى الجنة من ذلك لتخلص به اللذة، كما قال
{ { من خمر لذة للشاربين } وقيل: شراباً طهوراً لا ينقلب إلى البول بل يفيض من أعراضهم كرشح المسك ذكره ابراهيم التيمي.
وقوله { إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكوراً } اخبار من الله تعالى انه يقال للمؤمنين إذا فعل بهم ما تقدم من انواع اللذات وفنون الثواب: إن هذا كان لكم جزاء على طاعاتكم واجتناب معاصيكم فى دار التكليف، وإن سعيكم فى مرضات الله وقيامكم بما أمركم الله به كان مشكوراً أي جوزيتم عليه، فكأنه شكر لكم فعلكم.
ثم اخبر تعالى عن نفسه فقال { إنا نحن نزلنا عليك } يا محمد { القرآن تنزيلاً } فيه شرف وتعظيم لك. ثم أمره بالصبر على ما أمره من تحمل اعباء الرسالة فقال { فاصبر } يا محمد { لحكم ربك ولا تطع منهم } يعني من قومه الذين بعث اليهم { آثماً أو كفوراً } وهو نهي عن الجمع والتفريق أي لا تطع آثماً ولا كفوراً، كما يقول القائل: لا تفعل معصية صغيرة او كبيرة أي لا تفعلهما ولا واحدة منهما.
ثم امره بان يذكر الله بما يستحقه من الصفات والاسماء الحسنى، فقال { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا } والبكرة الغداة والاصيل العشي، وهو اصل الليل وجمعه آصال.
وقوله { ومن الليل فاسجد } دخلت (من) للتبعيض بمعنى فاسجد له فى بعض الليل، لانه لم يأمره بقيام جميع الليل، كما قال
{ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه } والسجود وضع الجبهة على الارض على وجه الخضوع وأصله الانخفاض كما قال الشاعر:

ترى الاكم فيها سجداً للحوافر

والسجود من العبادة التي اكد الله الأمر بها لما فيها من صلاح العباد. ثم قال { وسبحه ليلاً طويلاً } أي نزهه عما لا يليق به فى الليل الطويل. ثم قال { إن هؤلاء } يعني الكفار والذين يجحدون نبوتك { يحبون العاجلة } أي يؤثرون اللذات والمنافع العاجلة فى دار الدنيا من إرتكاب شهواتهم. والعاجلة المقدمة قبل الكرة الثانية { ويذرون } أي ويتركون { وراءهم } أي خلفهم { يوماً ثقيلاً } أي هو ثقيل على اهل النار أمره، وإن خف على اهل الجنة للبشارة التي لهم فيه. والثقيل ما فيه اعتمادات لازمة إلى جهة السفل على جهة يشق حمله. وقد يكون ثقيلا على انسان خفيفاً على غيره بحسب قدرته، فيوم القيامة مشبه بهذا. وقيل: معنى { وراءهم } أي خلف ظهورهم العمل للاخرة. وقيل { وراءهم } أمامهم الآخرة، وكلاهما محتمل، والاول أظهر.
ثم قال تعالى { نحن خلقناهم } أي نحن الذين اخترعنا هؤلاء الخلائق { وشددنا أسرهم } قال ابن عباس الأسر الخلق، وهو من قولهم: أسر هذا الرجل فأحسن اسره أي خلق فأحسن خلقه أي شد بعضه إلى بعض أحسن الشد، وقال ابو هريرة: الاسر المفاصل. وقال ابن زيد: الاسر القوة. وقولهم: خذ بأسره أي بشده قبل ان يحل، ثم كثر حتى جاء بمعنى خذ جميعه قال الاخطل:

من كل مجتلب شديد أسره سلس القياد تخاله مختالا

واصل الاسر الشد، ومنه قتب مأسور أي مشدود، ومنه الاسير، لانهم كانوا يشدونه بالقيد، وجاء فى التفسير وشددنا مفاصلهم. ثم قال { وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا } معناه إذا شئنا أهلكنا هؤلاء وأمثالهم وجئنا بقوم آخرين بدلهم نخلفهم ونوجدهم.
وقوله { إن هذه تذكرة } قال قتادة: معناه إن هذه السورة تذكرة، والتذكرة دلالة تخص بها المعاني الحكمية، وكل موعظة تدعو إلى مكارم الاخلاق ومحاسن الافعال تذكرة { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً } أي اتخذ إلى رضا ربه طريقاً بأن يعمل بطاعته وينتهي عن معصيته، وذلك يدل على انه قادر على ذلك قبل ان يفعله بخلاف ما يقوله المجبرة.
وقوله { وما تشاؤن إلا أن يشاء الله } أي وليس تشاؤن شيئاً من العمل بطاعته وبما يرضاه ويوصلكم الى ثوابه إلا والله يشاؤه ويريده لأنه يريد من عباده أن يطيعوه، وليس المراد أن يشاء كل ما يشاؤه العبد من المعاصي والمباحات، لان الحكيم لا يجوز أن يريد القبائح ولا المباح، لان ذلك صفة نقص ويتعالى الله عن ذلك. وقد قال الله تعالى
{ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } والمعصية والكفر من اعظم العسر فكيف يكون الله تعالى مشيئاً له وهل ذلك إلا تناقض ظاهر؟!
وقوله { إن الله كان عليماً حكيماً } اخبار بأنه - عز وجل - كان عالماً بجميع المعلومات وبما يفعله عباده من الطاعة والمعصية { حكيماً } فى جميع ما يفعله ويأمر به. ثم قال { يدخل من يشاء في رحمته } من الجنة وثوابها اذا أطاعوه في عمل ما رغبهم فيه { والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً } نصب { الظالمين } على تقدير وعاقب الظالمين باعداد العذاب الأليم أي أعد للظالمين اعد لهم، وحذف لدلالة الثاني عليه ولا يظهر ذلك، لان تفسيره يغني عن إظهاره.