التفاسير

< >
عرض

ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
٢٩
ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ
٣٠
لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ ٱللَّهَبِ
٣١
إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَٱلْقَصْرِ
٣٢
كَأَنَّهُ جِمَٰلَتٌ صُفْرٌ
٣٣
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
٣٤
هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ
٣٥
وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ
٣٦
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
٣٧
هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ جَمَعْنَٰكُمْ وَٱلأَوَّلِينَ
٣٨
فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ
٣٩
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
٤٠
-المرسلات

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ رويس { انطلقوا إلى ظل } على فتح اللام بلفظ الماضي. وقرأ اهل الكوفة إلا أبا بكر { جمالة } وضم الجيم يعقوب. الباقون { جمالات } من قرأ { جمالة } على لفظ الواحد قال معناه الجمع لقوله { صفر } ومن قرأ { جمالات } بكسر الجيم قال: جمالة وجمالات جميعاً جمعان، كأنه جمع الجمع مثل: رجال ورجالات، وبيوت وبيوتات، والهاء فى قوله { كأنه } كناية عن الشرر.
وهذا حكاية ما يقول الله تعالى للكفار المكذبين بيوم الدين يوم القيامة فانه يقول لهم { انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون } من العقاب على الكفر ودخول النار جزاء على المعاصي، فكنتم تجحدون ذلك وتكذبون به ولا تعترفون بصحته، فامضوا اليوم اليه. فالانطلاق الانتقال من مكان إلى مكان من غير مكث الاعتقال، وهو من الاطلاق خلاف التقييد، والانتقال من حال إلى حال، ومن اعتقاد إلى اعتقاد لا يسمى انطلاقاً. ثم ذكر الموضع الذي أمرهم بالانطلاق اليه، فقال { انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب } قيل: معناه يتشعب من النار ثلاث شعب: شعبة فوقه، وشعبة عن يمينه وشعبة عن شماله فيحيط بالكافر. وقال مجاهد وقتادة { ظل } دخان من جهنم ينقسم ثلاث شعب كما قال تعالى
{ أحاط بهم سرادقها } أي من الدخان الآخذ بالانفاس { لا ظليل } معناه غير مانع من الاذى يستر عنه، فالظليل المانع من الاذى بستره عنه، ومثله الكنين، فالظليل من الظلة، وهي السترة، والكنين من الكن، فظل هذا الدخان لا يغني الكفار من حر النار شيئاً. وبين ذلك بقوله { ولا يغني من اللهب } والاغناء إيجاد الكفاية بما يكون وجود غيره وعدمه سواء يقال: أغنى عنه أي كفى في الدفع عنه. واللهب إرتفاع الشرر، وهو اضطرام النار، إلتهب يلتهب إلتهاباً وألهبتها إلهاباً ولهباً.
وقوله { إنها } يعني النار { ترمي بشرر } وهي قطع تطاير من النار في الجهات وأصله الظهور من شررت الثوب إذا اظهرته للشمس والشرر يظهر متبدداً من النار. وقوله { كالقصر } أي ذلك الشرر كالقصر أي مثله في عظمه، وهو يتطاير على الكافرين من كل جهة - نعوذ بالله منه - والقصر واحد القصور من البنيان - في قول ابن عباس ومجاهد - وفي رواية أخرى عن ابن عباس وقتادة والضحاك: القصر أصول الشجر واحدته قصرة مثل جمرة وجمر، والعرب تشبه الابل بالقصور، قال الاخطل:

كأنه برج رومي يشيده لزّ بجص وآجرّ وأحجار

والقصر في معنى الجمع إلا انه على طريق الجنس. ثم شبه القصر بالجمال، فقال { كأنه جمالات صفر } قال الحسن وقتادة: كأنها انيق سود، لما يعتري سوادها من الصفرة. وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير: قلوس السفن، وفي رواية أخرى عن ابن عباس: هي قطع النحاس. قال الزجاج "جمالات" بالضم جمع جمالة وهو القلس من قلوس البحر، ويجوز أن يكون جمع (جمل) وجمالات، كما قيل (رحال) جمع (رحل) ومن كسر فعلى انه جمع جمالة، وجمالة جمع جمل مثل حجر وحجارة، وذكر وذكارة. وقرئ في الشواذ "كالقصر" بفتح الصاد جمع كأنها أعناق الابل "وجمالات" جمع جمل كرجل ورجالات، وبيت وبيوتات، ويجوز أن يكون جمع جمالة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم "جملة" بغير الألف على التوحيد لانه لفظ جنس يقع على القليل والكثير. الباقون جمالات بألف، مكسور الجيم.
وقوله { ويل يومئذ للمكذبين } قد فسرناه ثم قال تعالى { هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون } اخبار من الله تعالى أن ذلك اليوم لا ينطق الكفار. وقيل في معناه قولان:
احدهما - ان ذلك اليوم مواطن، فموطن لا ينطقون، لانهم مبلسون من هول ما يرونه، وموطن يطلق فيه عن ألسنتهم فينطقون، فلذلك حكى عنهم أنهم
{ قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل } وقد يقال هذا يوم لا ينطقون إذا لم ينطقوا في بعضه كما يقال: كان كذا يوم قدم فلان وإن كان قدم في بعضه، لان المعنى مفهوم.
والثاني - انهم ينطقون بنطق لا ينتفعون به، وكأنهم لم ينطقوا، واضاف الزمان إلى الأفعال كقولك أتيتك يوم قدم زيد، وآتيك يوم يخرج عمرو، وأجاز النحويون هذا يوم لا ينطقون بالنصب على انه يشير إلى الجزاء، ولا يشير إلى اليوم
وقوله { ولا يؤذن لهم } فالاذن الاطلاق في الفعل، تقول: يسمع بالاذن فهذا أصله وقد كثر استعماله حتى صار كل دليل ظهر به أن للقادر أن يفعل كذا فهو أذن له، وكل ما اطلق الله فيه بأي دليل كان، فقد أذن فيه.
وقوله تعالى { فيعتذرون } فالاعتذار الانتفاء من خلاف المراد بالمانع من المراد، وليس لاحد عذر في معصية الله، لانه تعالى لا يكلف نفساً ما لا يطاق. وقد يكون له عذر في معصية غيره، لانه قد يكلف خلاف الصواب وقد يكلف ما لا يمكن لعارض من الاسباب.
وقوله { فيعتذرون } رفع عطفاً على قوله { لا يؤذن } قال الفراء: تقديره لا ينطقون ولا يعتذرون، وقد يجوز في مثله النصب على جواب النفي، ومعنى الآية لا يؤذن لهم في الاعتذار فكيف يعتذرون.
وقوله { هذا يوم الفصل } يعني يفصل بين الخلائق بالحكم لكل أحد بما له وعليه. والفصل قطع علق الأمور بتوفية الحقوق، وهذا الفصل الذي هو فصل القضاء يكون ذلك في الآخرة على ظاهر الأمر وباطنه، وأما فى الدنيا، فهو على ظاهر الأمر، لان الحاكم لا يعرف البواطن.
وقوله { جمعناكم والأولين } معناه إن الله يجمع فيه الخلائق فى يوم واحد فى صعيد واحد، والجمع جعل الشيء مع غيره إما فى مكان واحد أو محل واحد أو فى يوم واحد أو وقت واحد، أو يجعل مع غيره فى حكم واحد أو معنى واحد كجمع الجماد والحيوان فى معنى الحدوث.
وقوله { فإن كان لكم كيد فكيدون } معناه توبيخ من الله تعالى وتقريع للكفار واظهار عجزهم عن الدفع عن أنفسهم فضلا عن أن يكيدوا غيرهم، وإنما هو على أنكم كنتم فى دار الدنيا تعملون ما يغضبني، فالان عجزتم عن ذلك وحصلتم على وبال ما عملتم. وقيل: المعنى إن كان لكم حيلة تحتالونها فى التخلص فاحتالوا. والكيد الحيلة و { ويل يومئذ للمكذبين } قد مضى تفسيره.