التفاسير

< >
عرض

عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ
١
عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ
٢
ٱلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ
٣
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
٤
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
٥
أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَٰداً
٦
وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً
٧
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً
٨
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً
٩
وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً
١٠
وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً
١١
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً
١٢
وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً
١٣
وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً
١٤
لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً
١٥
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً
١٦
-النبأ

التبيان الجامع لعلوم القرآن

وقف يعقوب على { عم } بالهاء. الباقون بلا هاء.
وقرأ ابن عامر { كلا ستعلمون } بالتاء على الخطاب فيهما أي قل لهم ستعلمون عاقبة أمركم. الباقون - بالياء - على الغيبة، وهو الأقوى لقوله { عم يتساءلون } وقوله { الذي هم فيه مختلفون } ولم يقل أنتم، وإن كانت التاء جائزة لان العرب تنتقل من غيبة إلى خطاب، ومن خطاب إلى غيبة.
قيل فى سبب نزول هذه الآية: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان إذا حدّث قريشاً وعرّفهم أخبار الامم السالفة ووعظهم كانوا يهزؤن بذلك، فنهاه الله تعالى أن يحدثهم فقال
{ { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزء } إلى قوله { حتى يخوضوا في حديث غيره } فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يحدث اصحابه فاذا أقبل واحد من المشركين أمسك فاجتمعوا على بكرة أبيهم وقالوا: والله يا محمد إن حديثك عجب، وكنا نشتهي أن نسمع كلامك وحديثك، فقال إن ربي نهاني أن أحدثكم، فأنزل الله تعالى { عم يتساءلون عن النبأ العظيم } وقوله { عم يتساءلون } أصله عن ما، فحذفت الألف لاتصالها بحرف الجر حتى صارت كالجزء منه لتدل على شدة الاتصال مع تخفيف المركَب فى الكلام، فحذف حرف الاعتلال وأدغمت النون فى الميم لقربها منها من غير أخلال، وصورته صورة الاستفهام والمراد تفخيم القصة والانكار والتهديد. وقوله { يتساءلون } معناه عن ماذا يسأل بعضهم بعضاً، فالتساؤل سؤال احد النفيسين للآخر، تساءلا تساؤلا وسأله مسألة، والسؤال طلب الاخبار بصيغة مخصوصة فى الكلام، وكل ما يزجر العقل عنه بما فيه من الداعي الى الفساد لا يجوز السؤال عنه كسؤال الجدل لدفع الحق ونصرة الباطل، وكالسؤال الذي يقتضي فاحش الجواب، لأنه كالامر بالقبيح. والنبأ معناه الخبر العظيم الشأن كمعنى الخبر عن التوحيد فى صفة الاله وصفة الرسول، والخبر عما يجوز عليه وما لا يجوز. وقال مجاهد: النبأ العظيم الشأن القرآن، وقال قتادة وابن زيد: هو السؤال عن البعث بعد الموت، لأنهم كانوا يجمعون على التكذيب بالقرآن { الذي هم فيه مختلفون } قال قتادة: معناه الذي هم فيه بين مصدق ومكذب، فقال الله سبحانه مهدداً لهم ومتوعداً { كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون } ومعنى { كلا } ردع وزجر، كأنه قال أرتدعوا وانزجروا ليس الأمر كما ظننتم. وقال قوم: معناه حقاً سيعلمون عاقبة أمرهم وعائد الوبال عليهم. وقال الضحاك: معناه كلا سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم، وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم. وقال قوم: كلا سيعلمون ما ينالهم يوم القيامة من العذاب، ثم كلا سيعلمون ما ينالهم في جهنم من العذاب، فلا يكون تكراراً. والاختلاف ذهاب كل واحد من النفيسين إلى نقيض ما ذهب اليه الآخر، يقال: اختلفا في المعنى فذهب أحدهما إلى كذا، وذهب الآخر إلى كذا.
ثم نبههم على وجه الاستدلال على صحة ذلك فقال { ألم نجعل الأرض مهاداً } أي وطاء، وهو القرار المهيأ للتصرف فيه من غير أذية. وقال قتادة: المهاد البساط ومهد الارض تمهيداً مثل وطأه توطئة، لأن ذلك لا يقدر عليه غير الله، لانه الذي يسكن الأرض حالا بعد حال حتى يمكن الاستقرار عليها والتصرف فيها { والجبال أوتاداً } أي وجعلنا الجبال أوتاداً للارض لئلا تميد بهم، فالجبال جمع جبل، وهو بغلظه وثقله يبلغ أن يكون ممسكاً للارض عن أن تميد بثقله، فعلى ذلك دبره الله، وذكر العباد به وما فيه من العبرة بعظمة من يقدر عليه. والوتد المسمار إلا أنه اغلظ منه، لذلك يقال: مسامير العناء إذا دقت كالمسمار من الحديد في القوة والدقة، ولو غلظت صارت أوتاداً فكذلك وصفت الجبال بأنها أوتاد للارض إذ جعلت بغلظها ممسكة لها عن أن تميد باهلها.
وقوله { وجعلناكم أزواجاً } أي اشكالا كل واحد يشاكل الآخر. وقيل: معناه ذكراً وأنثى حتى يصح منكم التناسل.
وقوله { وجعلنا نومكم سباتاً } أي نعاساً في أوله تطلب النفس الراحة به. وقيل: معناه جعلنا نومكم راحة. وقيل: معناه جعلنا نومكم طويلا ممتداً تعظم به راحة أبدانكم ويكثر به انتفاعكم، ومنه سبت من الدهر أي مدة طويلة منه. وقال ابو عبيدة: معناه جعلنا نومكم سباتاً ليس بموت، ورجل مسبوت فيه روح، والسبات قطع العمل للراحة، ومنه سبت أنفه إذا قطعه، ومنه يوم السبت أي يوم قطع العمل للراحة على ما جرت به العادة في شرع موسى، وصار علماً على اليوم الذي بعد الجمعة بلا فصل.
وقوله { وجعلنا الليل لباساً } فاللباس غطاء ساتر مماس لما ستر، فالليل ساتر للاشخاص بظلمته مماس لها بجسمه الذي فيه الظلمة قال الشاعر:

فلما لبسن الليل أوجن نصبت له من حذا آذانها وهي جنح

{ وجعلنا النهار معاشاً } أي متصرفاً للعيش والعيش الانعاش الذي تبقى معه الحياة على حال الصحة عاش يعيش عيشاً والنهار اتساع الضياء المنبث في الافاق وأصله من انهر الدم إذا وسع مجراه، ومنه النهر وهو المجرى الواسع من مجاري الماء، ومنه الانتهار الاتساع في الاغلاظ، وفى خلق النهار تمكين من التصرف للمعاش وفي ذلك أعظم النعمة واكبر الاحسان.
وقوله { وبنينا فوقكم سبعاً شداداً } يعني سبع سموات. والبناء جعل الطاق الأعلى على الأدنى، فالسماء مبنية كهيئة القبة مزينة بالكواكب المضيئة، فسبحان الذي زينها وخلقها وبناها على هذه الصفة لعباده. وإنما جعلها سبع سموات لما في ذلك من الاعتبار للملائكة، ولما فى تصور الطبقات من عظم القدرة، وهول تلك الامور، وما فيه من تمكين البناء حتى وقفت سماء فوق سماء، فسبحان من يمسكها بما هو قادر عليها ومدبر لها.
وقوله { وجعلنا سراجاً وهاجاً } يعني الشمس جعلها الله سراجاً للعالم يستضيئون به، فالنعمة عامة لجميع الخلق. والوهاج الوقاد، وهو المشتعل بالنور العظيم وقال مجاهد وقتادة: يعني وهاجاً متلألئاً.
وقوله { وأنزلنا من المعصرات } قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يعني الرياح، كأنها تعصر السحاب. وقيل هي السحاب تتحلب بالمطر. وقوله { ماء ثجاجاً } فالثجاج الدفاع فى انصبابه كثج دماء البدن، يقال ثججت دمه أثجه ثجاً، وقد ثج الدم يثج ثجوجاً { لنخرج به حباً ونباتاً } أي نخرج بذلك الماء حباً وهو كل ما تضمنه الزرع الذي يحصد. والنبات الكلأ من الحشيش والزرع { وجنات الفافاً } أي بساتين ملتفة بالشجر يخرجها الله تعالى لعباده بالمطر. وإنما قال { جنات } لأن الشجر يجنها أي يسترها و "الألفاف" الاخلاط المتداخلة يدور بعضها على بعض واحدها (لف) يقال: شجر ملتف وأشجار ملتفة. والمعاني الملففة المتداخلة باستتار بعضها ببعض حتى لا تبين إلا فى خفى. وقيل: واحده لف ولفف. وقيل: فى واحده شجرة لفا، وشجر لف. وقال مجاهد وقتادة وابن عباس: ألفافاً ملتفة. والتقدير فيه ويخرج به شجر جنات الفافاً ملتفة إلا انه حذف لدلالة الكلام عليه.