التفاسير

< >
عرض

إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً
١٧
يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً
١٨
وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً
١٩
وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً
٢٠
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً
٢١
لِّلطَّاغِينَ مَآباً
٢٢
لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً
٢٣
لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً
٢٤
إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً
٢٥
جَزَآءً وِفَاقاً
٢٦
إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً
٢٧
وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً
٢٨
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً
٢٩
فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً
٣٠
-النبأ

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ { وفتحت } بالتخفيف أهل الكوفة إلا الاعشى والبرجمي. الباقون بالتشديد. وقرأ حمزة وروح { لبثين فيها } بغير الف مثل (مزجين، وفرهين) الباقون { لابثين } بألف على اسم الفاعل، وهو الأجود، لأنه من (لبث) فهو (لابث) وحجة حمزة أنه مثل (طمع) و (طامع). واللبث البطئ. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصماً عن المفضل "غساقاً" مشددة. الباقون بالتخفيف، وهما لغتان. فالغساق صديد أهل النار - فى قول ابراهيم وقتادة وعكرمة وعطية - وقال أبو عبيدة: الغساق ماء وهو من الغسل أي سيال. وقال غيره: هو البارد. وقيل: المنتن.
يقول الله تعالى { إن يوم الفصل } يعني يوم الدين وهو يوم القيامة الذي يفصل الله فيه بالحكم بين الخلائق { كان ميقاتاً } أي جعله الله وقتاً للحساب والجزاء فالميقات منتهى المقدار المضروب لوقت حدوث أمر من الأمور، وهو مأخوذ من الوقت، كما أن الميعاد من الوعد، والميزان من الوزن والمقدار من القدر. والمفتاح من الفتح.
وقوله { يوم ينفخ في الصور } فالنفخ إخراج ريح الجوف من الفم، ومنه نفخ الزق، والنفخ فى البوق، ونفخ الروح فى البدن يشبه بذلك، لانها تجري فيه كما تجري الريح، يجري مجرى الريح فى الشيء، والصور قرن ينفخ فيه فى حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وآله وقال الحسن: هو جمع صورة. وبه قال قتادة. ومعناه: إذكر يوم ينفخ فى الصور { فتأتون أفواجاً } فالفوج جماعة من جماعة. والأفواج جماعات من جماعات، فالناس يأتون على تلك الصفة الى أن يتكاملوا فى أرض القيامة. وكل فريق يأتي مع شكله. وقيل تأتي كل أمة مع نبيها، فلذلك جاؤا أفواجاً أي زمراً.
وقوله { وفتحت السماء فكانت أبواباً } معناه وشققت السماء، فكانت كقطع الأبواب. وقيل: صار فيها طرق ولم يكن كذلك قبل.
وقوله { وسيرت الجبال فكانت سراباً } معناه زيلت الجبال عن أماكنها وأذهب بها حتى صارت كالسراب.
وقوله { إن جهنم كانت مرصاداً } إخبار منه تعالى بأن جهنم تكون يومئذ مرصاداً. والمرصاد هو المعد لأمر على ارتقابه الوقوع فيه، وهو مفعال من الرصد. وقيل: المعنى ذات ارتقاب لاهلها تراصدهم بنكالها. والرصد عمل ما يترقب به الاختطاف.
وقوله { للطاغين } يعني جهنم للذين طغوا في معصية الله وتجاوزوا الحد "مآبا" أي مرجعاً، وهو الموضوع الذي يرجع اليه، فكأن المجرم قد كان باجرامه فيها ثم رجع اليها، ويجوز أن يكون كالمنزل الذي يرجع اليه.
وقوله { لابثين فيها أحقاباً } أي ماكثين فيها أزماناً كثيرة، وواحد الاحقاب حقب من قوله
{ أو أمضي حقباً } أي دهراً طويلا. وقيل واحده حقب، وواحد الحقب حقبة، كما قال الشاعر:

وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

وإنما قال { لابثين فيها أحقاباً } مع انهم مخلدون مؤبدون: لا انقضاء لها إلا انه حذف للعلم بحال أهل النار من الكفار باجماع الامة عليه { لابثين فيها أحقاباً لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً } ثم يعذبون بعد ذلك بضرب آخر كالزقوم والزمهرير ونحوه من أصناف العذاب، ومن قرأ "لبثين" بلا الف استشهد فى تعدي (فعل) بقول الشاعر:

ومسحل سح عضاده سحج بسراتها ندب له وكلوم

وقال ابن عباس: الحقب ثمانون سنة. وقال الحسن: سبعون سنة. وقال قوم: هو اكثر من ذلك.
وقوله { لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً } قال ابو عبيدة: البرد ها هنا النوم قال الكندي:

فيصدني عنها وعن قبلتها البرد

أي النوم، فكأنهم لا ينامون من شدة ما هم فيه من العذاب، ولا يجدون شراباً يشربوه { إلاحميماً وغساقاً } فالحميم الحار الشديد الحرارة والغساق صديد أهل النار - فى قول إبراهيم وقتادة وعطية وعكرمة - يقال: غسقت القرحة غسقاً إذا سال صديدها، وكذلك الجروح، ومنه قوله { ومن شر غاسق إذا وقب } والغاسق الليل إذا لبس الاشياء بظلمته. كأنه يسيل عليه بظلامه، وقال الحسن: الجنة والنار مخلوقتان فى الايام الستة الأول، وهي الجنة التي سكنها آدم، وهي الجنة التي يسكنها المتقون في الآخرة. ثم يفنيها الله لهلاك الخلائق. ثم يعيدها، فلا يفنيها أبداً. وقال قوم: هما مخلوقتان، ولا يفنيهما الله. وقال آخرون: هما غير مخلوقتين والجنة التي كان فيها آدم جنة أخرى ليست جنة الخلد.
وقوله { جزاء وفاقاً } قال ابن عباس ومجاهد والربيع وقتادة: معناه وافق الجزاء أعمالهم، فالوفاق الجاري على المقدار، فالجزاء وفاق لانه جار على مقدار الاعمال في الاستحقاق، وذلك أنه يستحق على الكفر أعظم مما يستحق على الفسق الذي ليس بكفر. ويستحق على الفسق أعظم مما يستحق على الذنب الصغير.
وقوله { إنهم كانوا لا يرجون حساباً } أي لا يرجون المجازاة على الأعمال ولا يتوقعونه - وهو قول الحسن وقتادة - وقيل: معناه إنهم كانوا: لا يرجون حسن الجزاء في الحساب لتكذيبهم فالرجاء التوقع لوقوع أمر يخاف ألا يكون، فهؤلاء كان يجب عليهم أن يتوقعوا الحساب على يقين أنه يكون، فلم يفعلوا الواجب في هذا، ولا قاربوه لاعتقادهم أنه لا يكون فاللوم أعظم لهم والتقريع لهم أشد. وقيل: معنى لا يرجون لا يخافون كما قال الهذلي:

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وحالفها في بيت نوب عوامل

وقوله { وكذبوا بآياتنا كذاباً } معناه جحدوا بآيات الله وحججه، ولم يصدقوا بها. وإنما جاء المصدر على فعال للمبالغة مع اجرائه على نظيره الذي يطرد قبل آخره الف نحو الانطلاق والاقتدار والاستخراج والقتال والكرام، والمصدر الجاري على فعل التفعيل نحو التكذيب والتحسين والتقديم، وقد خرج التفعيل عن النظير لما تضمن من معنى التكثير، كما خرج التفاعل والمفاعلة للزيادة على أقل الفعل، فانه من اثنين. ومثل كداب، حملته حمالا وحرقته حراقاً.
وقوله { وكل شيء أحصيناه كتاباً } معناه وأحصينا كل شيء أحصيناه فى كتاب، فلما حذف حرف الجر نصبه، وقيل: إنما نصبه لان فى احصيناه معنى كتبناه، فكأنه قال كتبناه كتاباً، ومثل كذبته كذاباً قصيته قصاء قال الشاعر:

لقد طال ما تبطتني عن صحابتي وعن جوح قصاؤها من شقائيا

والوجه فى إحصاء الاشياء فى الكتاب ما فيه من الاعتبار للملائكة بموافقة ما يحدث لما تقدم به الاثبات مع أن تصور ذلك يقتضي الاستكثار من الخير والاجتهاد فيه، كما يقتضي إذا قيل للانسان ما تعمله فانه يكتب لك وعليك.
وقوله { فذوقوا } أي يقال لهؤلاء الكفار ذوقوا ما كنتم فيه من العذاب { فلن نزيدكم إلا عذاباً } لان كل عذاب يأتي بعد الوقت الاول فهو زائد عليه.