التفاسير

< >
عرض

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ
١٥
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى
١٦
ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ
١٧
فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ
١٨
وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ
١٩
فَأَرَاهُ ٱلآيَةَ ٱلْكُبْرَىٰ
٢٠
فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ
٢١
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ
٢٢
فَحَشَرَ فَنَادَىٰ
٢٣
فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ
٢٤
فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلآخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ
٢٥
-النازعات

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ ابن كثير وابو عمرو ونافع { طوى إذهب } غير منونة. الباقون { طوىً إذهب } منونة. وقرأ نافع "تزكى" مشددة الزاي بمعنى تتزكى، فادغم التاء في الزاي. الباقون خفيفة الزاي، فحذفت احدى التاءين. قال ابو عمرو: يقال: تزكى مشدداً إذا أردت تتصدق، ولم يدع موسى فرعون إلى ان يتصدق، وهو كافر. وإنما قال له هل لك ان تصير زاكياً، قال: فالتخفيف هو الاختيار. ومن نون "طوى" جعله اسم واد، ومن لم ينون جعله اسم الارض، لانه معدول من (طاو). ومن كسر الطاء قال: قدس مرتين، وتبين فيه البركة مرتين، مثل ثنى وعدى.
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله يقول له { وهل أتاك } يا محمد { حديث موسى } فلفظه لفظ الاستفهام والمراد به التقرير { إذ ناداه ربه } أى حين ناداه الله { بالواد المقدس طوى } فالنداء الدعاء على طريقة يا فلان، والندا مدّ الصوت بندائه، فمعنى { ناداه } قال له يا موسى. ثم أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي و { الوادي المقدس } يعني المطهر و { طوى } قال مجاهد وقتادة: واد، وقيل طوى التقديس. وقرأ الحسن "طوى" بكسر الطاء. وقيل طوي بالبركة والتقديس بندائه مرتين، قال طرفة بن العبد:

أعاذل إن اللوم في غير كنهه علي طوى من غيك المتردد

أى اللوم المكرر، و "طوى" غير مصروف، لانه اسم البقعة من الوادي وهو معرفة، ويجوز أن يكون معدولا من (طاوى) في قول الزجاج.
وقوله { إذهب إلى فرعون إنه طغى } اخبار من الله - عز وجل - عن حال فرعون بأنه طغى، ومعناه تجاوز الحد فى الاستعلاء، والتمرد والفساد، يقال طغى يطغى طغياناً فهو طاغ، ونظيره البغي، بغى على الناس يبغي بغياً فهو باغ وهم البغاة والطغاة، ونظير الطغيان العدوان، وهو المجاوزة لحد الصغيرة، وكل من طغى فقد عتا واعتدى.
ثم ذكر ما أمره أن يقول له بأن قال { فقل هل لك إلى أن تزكى } أي ادعوه إلى الله وطريق الجنة، و "قل" على وجه التلطف فى الكلام { هل لك إلى أن تزكى } وتطهر من المعاصي، فالتزكي طلب الطالب أن يصير زاكياً، تزكي يتزكى تزكياً، والزاكي النامي فى الخير، والزكاء النماء فى الخير، ولو نمى فى الشر لم يكن زاكياً { وأهديك إلى ربك فتخشى } معناه وأهديك الى طريق الحق الذي إذا سلكته وصلت إلى رضى الله وثوابه، فالهداية الدالة على طريق الرشد من الغي. وقد يكون دلالة على معنى ليس برشد ولا غي كالدلالة على الحركة فقط. وقوله { فتخشى } فالخشية توقع المضرة من غير قطع بها لا محالة، والخشية والخوف والتقية نظائر، يقال: خشي يخشى خشية، فهو خاش، وذاك مخشي. وفى الكلام حذف وتقديره فأتاه فدعاه { فأراه الآية الكبرى } وقوله { فكذب وعصى } حكايه عن فرعون أنه كذب موسى في ما دعاه اليه وجحد نبوته وعصاه في ما أمره به من طاعة الله { ثم أدبر يسعى } أي ولى فرعون الدبر بعد ذلك، فالادبار تولية الدبر، ونقيضه الاقبال وأقبل فلان إذا استقامت له الأمور على المثل أي هو كالمقبل إلى الخير، وأدبر فلان إذا اضطربت عليه حاله، ففرعون ولى الدبر ليطلب ما يكسر به حجة موسى عليه السلام فى الآية الكبرى، وهي المعجزة العظيمة، فما ازداد إلا غواية، لأنه لا يقاوم الضلال الحق.
وقوله { ثم أدبر يسعى } فالسعي الاسراع فى المشي، وفي إدباره يسعى فى هذه الحال دليل على خوفه. وقيل: إنه لما رأى العصا انقلبت حية في عظمها خاف منه، فادبر يسعى.
وقوله { فحشر فنادى } فالحشر الجمع من كل جهة، وقد يكون الجمع بضم جزء إلى جزء، فلا يكون حشراً، فاذا جمع الناس من كل جهة، فذلك الحشر، ولهذا سمي يوم الحشر. والحاشر الذي يجمع الناس من كل جهة الى الخراج، وإنما طلب السحرة، فلما اجتمعوا ناداهم فقال لهم { أنا ربكم الأعلى } فالأعلى المختص بعلو معنى صفته على غيره مما لا يناله بكيد وينال هو به، ومن هنا خرج بالغلو الى التعظيم، ولم يكن مثل ذلك فى جهة من الجهات، وكأنه قال: أنا الذي أنال بالضرر من شئت ولا ينالني غيري. وكذب - لعنه الله - إنما هذه صفة الذي خلقه وخلق جميع الخلق، ومعنى { نادى } ها هنا قال: يامعشر الناس أنا ربكم الأعلى، إذ نادى بهذا القول. وقيل: كلمته الاولى
{ ما علمت لكم من إله غيري } وقوله الآخر هذا { أنا ربكم الأعلى } ذكره ابن عباس ومجاهد والشعبي والضحاك.
ثم حكى تعالى ما عامله به من العقاب فقال { فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } فالنكال عقاب بنكل من الاقدام على سببه بشدته، نكل به تنكيلا إذا شوه به في عقابه بما يكون زاجراً لغيره عن مثل حذيه أشد الزجر الذي يزعج النفس. وقال الحسن وقتادة: معناه عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. وقال مجاهد: أول عمله وآخره وقال بعضهم: نكاله فعلته الأولى، وهو قوله { ما علمت لكم من إله غيري } وفعلته الأخيرة هو قوله { أنا ربكم الأعلى } وقال قوم: معناه نكال الدنيا بالغرق ونكال الآخرة ما صار اليه بعد الموت من العقاب. وقال الحسن { الآية الكبرى } اليد البيضاء. وقال غيره: قلب العصا حية.