التفاسير

< >
عرض

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ
٢٦
ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا
٢٧
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا
٢٨
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا
٢٩
وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا
٣٠
أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا
٣١
وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا
٣٢
مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ
٣٣
-النازعات

التبيان الجامع لعلوم القرآن

يقول الله تعالى بعد ما ذكر ما تقدم من قصة موسى وفرعون وما فعله الله بقوم فرعون من الاهلاك والدمار { إن في ذلك لعبرة } يعني فيما قصه واخبر به دلالة يمكن أن يعتبر بها العامل العاقل، فيعرف الحق ويميز بينه وبين الباطل، يقال: اعتبرته اعتباراً وعبرة، ومنه العبارة لانه يعبر بالمعنى فيها الى نفس المخاطب للافهام، ومنه عبور النهر وتعبير الرؤيا باخراج ما فيها بعبورها المعنى إلى النفس السائلة عنها.
وقوله { لمن يخشى } إنما خص من يخشى بالعبرة، لانه الذي يعتبر بها وينتفع بالنظر فيها دون الكافر الذي لا يخشى عذاب الله، كما قال
{ هدى للمتقين } }. ثم خاطب الكفار الجاحدين بالله تعالى على وجه التبكيت لهم والتوبيخ { أأنتم أشد خلقاً } ومعناه أانتم اشد أمراً بصغر حالكم { أم السماء } في عظم جرمها وشأنها في وقوفها وسائر نجومها وافلاكها. قال بعض النحويين { بناها } من صلة السماء. والمعنى أم التي بناها. وقال آخرون { السماء } ليس مما يوصل، ولكن المعنى أأنتم اشد خلقاً أم السماء اشد خلقاً. ثم بين كيف خلقها فقال { بناها } والله تعالى لا يكبر عليه خلق شيء اشد من خلق غيره، وإنما أراد انتم أشد خلقاً عندكم وفى ظنكم مع صغركم أم السماء مع عظمها وشدة إحكامها؟ وبين انه تعالى بنى السماء و { رفع سمكها } يعني ارتفاعها، فالسمك مقابل للعمق، وهو ذهاب الجسم بالتأليف فى جهة العلو، وبالعكس منه العمق. والطول ذهاب الجسم في جهة الطول. والعرض ذهابه فى جهة العرض، وهو بالاضافة الى ما يضاف اليه.
وقوله { فسواها } فالتسوية جعل أحد الشيئين على مقدار الآخر على نفسه او في حكمه، وكل ما جعل في حقه على ترتيبه مع غيره فقد سوي، فلما كان كل شيء من السماء مجعولا فى صفة على ترتيبه مع غيره كانت قد سويت على هذا الوجه.
وقوله { وأغطش ليلها } قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد: معناه اظلم ليلها. وقال ابو عبيدة: كل أغطش لا يبصر. وقال: ليلها اضاف الظلام الى السماء لان فيها ينشأ الظلام والضياء بغروف الشمس وطلوعها على ما دبرها الله. وقوله { وأخرج ضحاها } قال مجاهد والضحاك أخرج نورها.
وقوله { والأرض بعد ذلك دحاها } قال مجاهد والسدي: معناه دحاها مع ذلك، كما قال { عتل بعد ذلك } أي مع ذلك. وقال ابن عباس: ان الله دحا الأرض بعد السماء، وإن كانت الارض خلقت قبل السماء، ومعنا دحاها بسطحها دحا يدحو دحواً ودحيت ادحي دحياً لغتان، قال أمية بن أبي الصلت:

دار دحاها ثم أعمر بابها واقام بالأخرى التي هي أمجد

وقال اوس بن حجر:

ينفي الحصا عن جديد الارض مبترك كأنه فاحص أو لاعب داح

وقوله { أخرج منها } يعني من الارض { ماءها } يعني المياه التي تخرج من الارض وفيها منافع جميع الحيوان، وبه قوام حياتهم كما قال { وجعلنا من الماء كل شيء حي } { ومرعاها } أي واخرج المرعى من الارض، وهو النبات الذي يصلح أن ترعاه الماشية، فهي ترعاه بأن تأكله فى موضعه، رعت ترعى رعياً ومرعى، وسمي النبات الذي يصلح أن يرعى به.
وقوله { والجبال أرساها } أي واثبت الجبال في الارض. والارساء الاثبات بالثقل. فالسفينة ترسو أي تثبت بثقلها فلا تزول عن مكانها، وربما ارست بالبحر بما يطرح لها. فأما الجبال فانها أوتاد الارض، وأرسيت بثقلها، وفى جعلها على الصفة التي هي عليها اعظم العبرة.
وقوله { متاعاً لكم ولأنعامكم } أي خلقنا ما ذكرناه من الارض وما يخرج منها من المياه والمراعي نفعاً ومتعة تنتفعون بها معاشر الناس وينتفع بها أنعامكم: الابل والبقر والغنم، ففى الاشياء التي عددها اعظم دلالة واوضح حجة على توحيد الله، لأن الارض مع ثقلها الذي من شأنه ان يذهب سفلا هي واقفة بامساك الله تعالى، وهي على الماء. ومن شأن الماء أن يجري في المنحدر، وهي وافقة بامساك الله تعالى فقد خرجت عن طبع الثقيل، وذلك لا يقدر عليه غير القادر لنفسه الذي يخترع الاشياء إختراعاً، دون القادر بقدرة الذى لا يقدر أن يفعل فى غيره إلا على وجه التولية بأن يعتمد عليه، فدل ذلك على ان الفاعل لهذه الاشياء لا يشبه الاشياء ولا تشبهه. وفى اخراج الماء من الارض عبر لا تحصى كثرة بما فيه من المنفعة، وما له من المادة على موضع الحاجة، وسد الخلة مع ما فيه من المنفعة والتوفيق فى السير الى المكان البعيد بالسهولة، كل ذلك منّ الله تعالى به على خلقه وأنعم به عليهم.
وقوله { متاعاً } نصب على المفعول له، وتقديره اخرج منها ماءها ومرعاها للامتاع لكم لان معنى أخرج منها ماءها ومرعاها امتع بذلك.