التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلْكُبْرَىٰ
٣٤
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ مَا سَعَىٰ
٣٥
وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ
٣٦
فَأَمَّا مَن طَغَىٰ
٣٧
وَآثَرَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا
٣٨
فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ
٣٩
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ
٤٠
فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ
٤١
يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا
٤٢
فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَٰهَا
٤٣
إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَٰهَآ
٤٤
إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَٰهَا
٤٥
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَٰهَا
٤٦
-النازعات

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ ابو جعفر وعياش عن أبي عمرو { إنما أنت منذر من يخشاها } بالتنوين. الباقون على الاضافة. والمعنى واحد. فمن نون جعل "من" فى موضع النصب. وإنما اختار ذلك، لانه جعله { منذراً } في الحال. ومن اضافه استخف ذلك كما استخف في قوله { عارضاً مستقبل أوديتهم } والتنوين مقدر، لان المعنى إنه منذر فى الحال، وفيما بعد. ومن اضاف جعلها في موضع جر. والمنذر النبي صلى الله عليه وآله قال الله تعالى { إنما أنت منذر ولكل قوم هاد } قال قوم: المنذر النبي صلى الله عليه وآله والهادي علي عليه السلام. وقيل { لكل قوم هاد } داع يدعوهم الى الحق.
يقول الله تعالى مهدداً للمكلفين من خلقه { فإذا جاءت الطامة الكبرى } قال ابن عباس: الطامة القيامة. وقال الحسن: الطامة هي النفخة الثانية. وقيل: هى الصيحة التي تطمّ على كل شيء، وهى الصيحة التي يقع معها البعث والحساب والعقاب والثواب وقيل هى الطامة الغامرة الهائلة، وفى المثل: ما من طامة إلا وفوقها طامة قال الفراء: يقال: تطم على كل شيء يطم. وقال قوم: الطامة الغامرة، لما يتدفق بغلظها وكثرتها. وقيل: هى الغاشية المجللة التي تدفق الشيء بالغلظ، ثم بين متى مجيئها فقال { يوم يتذكر الإنسان ما سعى } ومعناه تجيء الطامة فى يوم يتذكر الانسان ما عمله في دار التكليف من خير او شر وسعى فيه، ويعلم ما يستحقه من ثواب وعقاب { وبرزت الجحيم لمن يرى } أي لمن يراها ويبصرها شاهداً، فالتبريز اظهار الشيء بمثل التكشيف الذي يقضي اليه بالاحساس، ويقال: فلان مبرز فى الفضل إذا ظهر به اتم الظهور، وبارز قرنه أي ظهر اليه من بين الجماعة.
ثم قسم احوال الخلق فى ذلك اليوم من العصاة والمطيعين، فقال { فأما من طغى } بأن تجاوز الحد الذي حده الله، وارتكب المعاصي والطغيان والعصيان بمجاوزة الحد فيه الى الافراط فيه، فكل كافر طاغ بافراطه في ظلم نفسه، وظلم النفس كظلم غيرها فى التعاظم، وقوله { وآثر الحياة الدنيا } معناه اختار منافع الحياة الدنيا بارتكاب المعاصي وترك ما وجب عليه، فالايثار إرادة الشيء على طريقة التفضيل له على غيره، ومثله الاختيار، لانه يختاره على انه خير من غيره، فمن آثر الأدنى على الاولى فهو منقوص بالحاجة، كما ان من آثر القبيح على الحسن كان منقوصاً. وقيل: المعنى من آثر نعيم الحياة الدنيا على نعيم الآخرة والحياة حياتان: حياة الدنيا وهى المنقطعة الفانية، وحياة الآخرة، وهى الدائمة، فمن آثر الباقي الدائم على الفاني المنقطع كان حسن الاختيار، ومن آثر الفاني على الباقي كان سيء الاختيار مقبحاً.
ثم بين تعالى ما له في الآخرة فقال { فإن الجحيم هي المأوى } اي النار مثواه ومستقره وموضع مقامه.
ثم ذكر من هو بضد ذلك فقال { وأما من خاف مقام ربه } ومعناه من خاف مقام مسألة ربه عما يجب فعله أو تركه وعمل بموجب ذلك بأن فعل الطاعة وأمتنع من المعصية { ونهى نفسه عن الهوى } وما تدعو اليه شهواته، فالهوى اريحية في النفس تدعو إلى ما لا يجوز فى العقل، فاتباع الهوى مذموم، وليس يجوز أن يعمل شيئاً لداعي الهوى وإن عمل لداعي العقل على موافقة الهوى لم يضره. وقيل: هم قوم صغرت الدنيا فى عينهم حين رأوا الآخرة - ذكره قتادة - وقيل: الزهد في الدنيا، والرغبة في الاخرة هو التمسك بطاعة الله وأجتناب معصيته.
ثم بين تعالى ما له في مقابلة ذلك من الثواب فقال { فإن الجنة هي المأوى } أي هي مقره ومأواه، فالالف واللام تعاقب الضمير كقولهم مررت بحسن الوجه أي حسن وجهه. وقال الزجاج: تقديره هي المأوى له ولا يكون بدلا من الهاء كما لا يكون بدلا من الكاف في قولك غض الطرف، قال: وقال الشاعر:

فغض الطرف إنك من نمير فلا سعداً بلغت ولا كلابا

ويروى (فلا كعباً) والجنة البستان الذى يجنه الشجر فجنة الخلد بهذه الصفة على ما فيها من القصور والابنية الحسنة التي قد جمعت كل تحفة وطرفة مما تشتهي الانفس وتلذ الاعين، من غير أذى ملحق بحال في عاجل ولا آجل. وروي أن قصورها مبنية بفاخر الجوهر من الياقوت والزبرجد، ومنه ما هو بلبنة من فضة ولبنة من ذهب، فتعظيم الله لها وتشويقه اليها يدل على أنها على اجل حال تشتهي فيها مع أنه لا يتعاظم في مقدور الله - عز وجل -.
ثم خاطب النبي صلى الله عليه وآله، فقال { يسألونك عن الساعة أيان مرساها } أى متى يكون قيامها على ما وصفها فـ { أيان } بمعنى (متى) الا أن (متى) أكثر استعمالا في السؤال عن الزمان ونظيرها (أين) في السؤال عن المكان. ولذلك فسرت { أيان } بـ (متى) والارساء الثبوت من قولهم: رست السفينة ترسو رسوا فهي راسية إذا ثبتت ومنه. قوله { أرساها } ويجوز أن يكون المراد بالمرسى المصدر. ويجوز أن يكون وقت الارساء والمعنى متى ثبت أمرها بقيامها.
وقوله { فيم أنت من ذكراها } أى انه ليس عندك علم متى تكون، وإنما عندك علم أنها تكون - ذكره الحسن - وقال غيره: هي حكاية قولهم، أى قد اكثرت من ذكرها، فمتى تكون؟. وقوله { إلى ربك منتهاها } أى قل لهم إلى الله تعالى إجراؤها، فالمنتهى موضع بلوغ الشيء، وكأنه قيل: إلى ربك منتهى أمرها باقامتها لان منتهى أمرها بذكرها ووصفها والاقرار بها إلى الرسول باقامتها، ومنتهى أمرها اقامتها إلى الله تعالى لا يقدر عليه إلا الله تعالى. وقيل: المعنى إلى ربك منتهى علمها أى لا يعلم إلا هو متى وقت قيامها - ذكره الحسن -.
وقوله { إنما أنت منذر من يخشاها } خطاب من الله للنبي صلى الله عليه وآله بأنه إنما يخوف من يخاف ذلك اليوم وهو يوم القيامة، وإنما خص الانذار بمن يخشى، لانه لما كان المنتفع بالانذار من يخشى فكأنه خص بالانذار. والكافر لما لم ينتفع بذلك فكأنه لم ينذر أصلا.
ثم بين تعالى سرعة مجيئها وقرب حضورها فقال { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } وقال قتادة: معناه إنهم إذا رأوا الآخرة صغرت الدنيا فى أعينهم حتى كأنهم لم يقيموا بها إلا مقدار عشية أو مقدار ضحاها يعني ضحى العشية. وأضيف الضحى إلى العشية، وضحوة الضحى اليوم الذي يكون فيه، فاذا قلت أتيتك صباحاً ومساء، فالمعنى أتيتك العشية أو غداتها، قال الفراء: وانشدني بعض بني عقيل:

نحن صبحنا عامراً في دارها عشية الهلال أو سرارها
قبل اصفرار الشمس واحمرارها

أراد عشية الهلال أو عشية سرار العشية فهذا أشد من ذلك،