التفاسير

< >
عرض

عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ
١
أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ
٢
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ
٣
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ
٤
أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ
٥
فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ
٦
وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ
٧
وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ
٨
وَهُوَ يَخْشَىٰ
٩
فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ
١٠
-عبس

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ عاصم وحده { فتنفعه الذكرى } بالنصب على أنه جواب (لعل) فجرى مجرى جواب الأمر والنهي، لان (لعل) للترجمي فهي غير واجبة، كما أن الامر غير واجب في حصول ما تضمنه. الباقون بالرفع عطفاً على { يذكر }. وقرأ نافع وابن كثير { تصدى } مشددة الصاد على أن معناه تتصدى فأدغم، أحدى التائين في الصاد لقرب مخرجهما. الباقون { تصدى } بتخفيف الصاد باسقاط أحدى التائين.
وقرأ ابن ابي بزة وابن فليح عن ابن كثير { تلهى } بتشديد اللام بمعنى تتلهى، فأدغم احدى التائين في اللام. الباقون بتخفيف اللام وحذف احدى التائين يقول الله تعالى { عبس وتولى } ومعناه قبض وجهه وأعرض، فالعبوس تقبض الوجه عن تكره، والعبوس البسور وهو التقطيب وعبس فلان في وجه فلان مثل كلح، ومنه اشتق اسم عباس، ومعنى { تولى } أعرض وذهب بوجهه عنه فصرفه عن ان يليه يقال: تولى عنه بمعنى أعرض عنه، وتولاه بخلاف تولى عنه، فان تولاه بمعنى عقد على نصرته، وتولى عنه أعرض.
وقوله { أن جاءه الأعمى } معناه عبس لأن جاءه الاعمى، وقال ابن خالويه: تقديره إذ جاءه الاعمى، المراد به عبد الله بن أم مكتوم - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد - وقال الفراء: كانت أم مكتوم أم ابيه. وقال غيره: كانت أمه. وقال ابن خالويه ابوه يكنى أبا السرج. واختلفوا فيمن وصفه الله تعالى بذلك، فقال كثير من المفسرين وأهل الحشو: إن المراد به النبي صلى الله عليه وآله قالوا وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله كان معه جماعة من أشراف قومه ورؤسائهم قد خلا بهم فاقبل ابن أم مكتوم ليسلم فأعرض النبي صلى الله عليه وآله عنه كراهية أن تكره القوم إقباله عليه فعاتبه الله على ذلك. وقيل: إن ابن أم مكتوم كان مسلماً، وإنما كان يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وهو لا يعلم أن رسول الله مشغول بكلام قوم، فيقول يا رسول الله.
وهذا فاسد، لان النبي صلى الله عليه وآله قد أجل الله قدره عن هذه الصفات، وكيف يصفه بالعبوس والتقطيب، وقد وصفه بأنه
{ لعلى خلق عظيم } وقال { ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } وكيف يعرض عمن تقدم وصفه مع قوله تعالى { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } ومن عرف النبي صلى الله عليه وآله وحسن أخلاقه وما خصه الله تعالى به من مكارم الاخلاق وحسن الصحبة حتى قيل إنه لم يكن يصافح احداً قط فينزع يده من يده، حتى يكون ذلك الذي ينزع يده من يده. فمن هذه صفته كيف يقطب في وجه أعمى جاء يطلب الاسلام، على أن الانبياء عليهم السلام منزهون عن مثل هذه الاخلاق وعما هو دونها لما في ذلك من التنفير عن قبول قولهم والاصغاء إلى دعائهم، ولا يجوز مثل هذا على الانبياء من عرف مقدارهم وتبين نعتهم.
وقال قوم: إن هذه الآيات نزلت في رجل من بني أمية كان واقفاً مع النبي صلى الله عليه وآله، فلما اقبل ابن أم مكتوم تنفر منه، وجمع نفسه وعبس في وجهه وأعرض بوجهه عنه فحكى الله تعالى ذلك وانكره معاتبة على ذلك.
وقوله { وما يدريك } خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وتقديره { قل } يا محمد { وما يدريك لعله يزكى } وإنما اضاف العبوس إلى النبي صلى الله عليه وآله من أضاف { وما يدريك } أنه رآه متوجهاً اليه ظن انه عتب له دون أن يكون متوجهاً اليه على أن يقول لمن فعل ذلك ويوبخه عليه. ومعنى قوله { يزكى } أي يتزكى بالعمل الصالح، فأدغم التاء في الزاي، كما أدغمت في الذال في قوله { يذكر } ومعناه يتذكر، ولا يجوز إدغام الزاي في التاء، لأنها من حروف الصفير، وهي الصاد والسين والزاي.
وقوله { أو يذكر } معناه أو يتذكر ما أمره الله تعالى به، ويفكر فيما أمره بالفكر فيه. وقد حث الله تعالى على التذكير في غير موضع من القرآن فقال
{ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } وقال { إنما يتذكر أولو الألباب } وينبغي للانسان أن يستكثر من ذكر ما يدعو إلى الحق ويصرف عن الباطل.
ثم بين انه متى يذكر { فتنفعه الذكرى } أي الفكر فيما أمره الله به من القرآن وغيره من الادلة.
وقوله { أما من استغنى } معناه أما من كان غنياً أو وجدته موسراً، فالاستغناء الاكتفاء بالأمر فيما ينفي الضرر وقد يكتفى الاناء فى ملئه بما فيه، فلا يستغني استغناء فى الحقيقة. وقوله { فأنت له تصدى } فالتصدى هو التعرض للشيء كتعرض العطشان للماء. وأصله الصدى، وهو العطش. ورجل صديان أي عطشان والصدى الصوت الذي يرده الجبل أو الحمام ونحوهما، قال مجاهد: المراد بـ { من استغنى } عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة. وقال سفيان: نزلت في العباس، فقال الله تعالى { وما عليك ألا يزكى } أي قل له وما عليك ألا يتزكى، فالتزكي هو التطهر من الذنوب، واصله الزكاء وهو النماء، فلما كان الخير ينمي للانسان بالتطهر من الذنوب كان تزكياً.
ثم قال { وأما من جاءك يسعى وهو يخشى } يعني عبد الله بن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله، وهو يخشى معصية الله والكفر، والخشية هي الحذر من مواقعة المعصية خوفاً من عقاب الله تعالى { فأنت عنه تلهى } أي تعرض عنه فالتلهي عن الشيء هو التروح بالاعراض عنه والتلهي به التروح والاقبال عليه ومنه قولهم إذا استأثر الله بشيء فاله عنه أي اتركه وأعرض عنه.