قرأ ابن كثير وابو عمرو والكسائي ورويس "بظنين" بالظاء أي ليس على الغيب بمتهم، والغيب هو القرآن، وما تضمنه من الاحكام وغير ذلك من اخباره عن الله. الباقون - بالضاد - بمعنى انه ليس بخيلا لا يمنع أحداً من تعليمه ولا يكتمه دونه. وفى المصحف بالضاد.
قوله { فلا أقسم بالخنس } معناه إقسم و (لا) صلة. وقد بينا نظائره فيما مضى. و { الخنس } جمع خانس، وهو الغائب عن طلوع، خنست الوحشية فى الكناس إذا غابت فيه بعد طلوع. وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام: أن الخنس النجوم لانها تخنس بالنهار وتبدو بالليل. وقيل: تخنس في مغيبها بعد طلوعها، وبه قال الحسن ومجاهد. وقال ابن مسعود وسعيد بن جبير والضحاك: هي الظباء. وقيل: القسم بالنجوم الخنس بهرام وزحل والمشتري وعطارد والزهرة. وقوله "الجوار الكنس" معناه النجوم التى تجري فى مسيرها ثم تغيب فى مغاربها على ما دبّره تعالى فيها ففي طلوعها، ثم جريها فى مسيرها، ثم غيبتها فى مواقفها من الآية العظيمة والدلالة الباهرة المؤدية إلى معرفته تعالى ما لا يخفى على متأمل معرفته وعظيم شأنه، فالجارية النجوم السيارة، والجارية السفن فى البحار، والجارية المرأة الشابة.
وقوله { الكنس } نعت لـ { الجوار } وهو جمع (كانس) وهي الغيب فى مثل الكناس، وهو كناس الوحشية بيت تتخذه من الشجرة تختفي فيه، قال طرفة:
كأن كناسي ضالة مكنفانها واطرقسيّ تحت صلب مؤيد
وقوله { والليل إذا عسعس } قسم آخر، ومعنى { عسعس } أدبر بظلامه - فى قول أمير المؤمنين علي عليه السلام وابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد - وقال الحسن ومجاهد في رواية والفضل بن عطية: أقبل بظلامه، وتقول العرب: عسعس الليل إذا أدبر بظلامه. قال علقمة بن قرط:
حتى إذا الصبح لها تنفساً وانجاب عنها ليلها وعسعسا
وقيل: عسعس دنا من أوله واظلم، والعس طلب الشيء بالليل، عسّ يعس عساً، ومنه أخذ العسس. وقال صاحب العين: العس نقض الليل عن أهل الريبة والعس قدح عظيم من خشب أو غيره، وكأن أصله امتلاء الشيء بما فيه، فقدح اللبن من شأنه أن يمتلئ به، ويمتلىء الليل بما فيه من الظلام، وعسعس أدبر بامتلاء ظلامه. وقال الحسن { والليل إذا عسعس } معناه إذا أظلم والصبح إذا تنفس إذا أسفر.
وقوله { والصبح إذا تنفس } قسم آخر بالصبح إذا أضاء وامتد ضوءه يقال: تنفس الصبح وتنفس النهار إذا امتد بضوئه، والتنفس امتداد هواء الجوف بالخروج من الفم والأنف يقال: تنفس الصعداء.
وقوله { إنه لقول رسول كريم } جواب الاقسام التى مضت، ومعنى { إنه لقول } يعني القرآن { رسول كريم } وهو جبرائيل عليه السلام - فى قول قتادة والحسن - بمعنى إنه سمعه من جبرائيل، ولم يقله من قبل نفسه. وقال: يجوز أن يراد به محمد صلى الله عليه وآله فانه أتى به من عند الله. وقوله { ذي قوة } معناه قوي على أمر الله. وقيل: معناه قوي في نفسه - في قول من قال: عنى به جبرائيل - لان من قوته قلبه قريات لوط بقوادم اجنحته.
وقوله { عند ذي العرش } معناه عند الله صاحب العرش { مكين } أى متمكن عنده، وفي الكلام تعظيم للرسول بأنه كريم، وأنه مكين عند ذي العرش العظيم وأن الله تعالى أكد ذلك اتم التأكيد. وقوله { مطاع ثم أمين } من قال المراد بالرسول جبرائيل، قال معناه إنه مطاع في الملائكة، أمين على وحي الله. ومن قال: عنى به الرسول صلى الله عليه وآله قال: معناه إنه يجب أن يطاع وأن من أطاعه فيما يدعوه اليه كان فائزاً بخير الدنيا والآخرة. ويرجو بطاعته الثواب ويأمن من العقاب، وإنه صلى الله عليه وآله كان يدعى الأمين قبل البعث فالامين هو الحقيق بأن يؤتمن من حيث لا يخون، ولا يقول الزور، ويعمل بالحق في الامور.
ثم خاطب تعالى جماعة الكفار فقال { وما صاحبكم بمجنون } أي ليس صاحبكم الذي يدعوكم إلى الله وإخلاص عبادته بمؤف العقل على ما ترمونه به من الجنون. والمجنون المغطى على عقله حتى لا يدرك الامور على ما هي به للافة الغامرة له، فبغمور الآفة يتميز من النائم، لان النوم ليس بآفة ولا عاهة.
وقوله { ولقد رآه بالأفق المبين } معناه إن النبي صلى الله عليه وآله رأى جبرائيل عليه السلام على صورته التى خلقه الله عليها بالافق المبين، فالافق ناحية من السماء يقال: هو كالنجم في الافق، وفلان ينظر في أفق السماء. وقوله { مبين } أي هو ظاهر انه في أفاق السماء من غير تخيل لا يرجع إلى يقين. وقال الحسن وقتادة: الافق المبين حيث تطلع الشمس. وقوله { وما هو على الغيب بضنين } قال ابن عباس وسعيد بن جبير وابراهيم والضحاك:، معناه ليس على وحي الله وما يخبر به من الاخبار بمتهم أي ليس ممن ينبغي أن يظن به الريبة، لان أحواله ناطقة بالصدق والامانة. ومن قرأ بالضاد معناه ليس ببخيل على الغيب.
وقوله { وما هو بقول شيطان رجيم } معناه أنه ليس هذا القرآن قولا لشيطان رجيم، قال الحسن: معناه رجمه الله باللعنة. وقيل رجيم بالشهب طرداً من السماء، فهو (فعيل) بمعنى (مفعول). وقوله { فأين تذهبون } معناه أين تذهبون عن الحق الذي قد ظهر أمره وبدت أعلامه الى الضلال الذي فيه البوار والهلاك، وهو استبطاء لهم فى القعود عن النبي صلى الله عليه وآله، والعمل بما يوجبه القرآن، فالذهاب هو المصير عن شيء الى شيء بالنفوذ فى الأمر. قال بعض بني عقيل:
تصيح بنا حنفية إذ رأتنا وأي الارض نذهب بالصباح
يعني إلى أي الارض، وقيل معناه فأي طريق يسلكون أبين من الطريق الذي بينه لكم { إن هو إلا ذكر للعالمين } يمكنكم أن تتوصلوا به إلى الحق. والذكر ضد السهو وعليه يتضاد العلم وأضداده، لأن الذاكر لا يخلو من أن يكون عالماً او جاهلا مقلداً أو شاكا، ولا يصح شيء من ذلك مع السهو الذي يضاد الذكر. وقال الرماني: الذكر إدراك النفس الذى يضاد للمعنى بما يضاد السهو. و "العالمين" جمع عالم. وقد فسرناه فى ما مضى.
وقوله { لمن شاء منكم أن يستقيم } على أمر الله ووعظ. وقوله { وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين } قيل في معناه ثلاثة اقوال:
احدها - وما تشاؤن من الاستقامة إلا وقد شاءها الله، لانه قد جرى ذكرها فرجعت الكناية اليها، ولا يجوز أن يشاء العبد الاستقامة إلا وقد شاءها الله، لانه أمر بها ورغب فيها أتم الترغيب، ومن ترغيبه فيه إرادته له.
والثاني - وما تشاؤن شيئاً إلا أن يشاء الله تمكينكم منه، لان الكلام يقتضي الاقتدار على تمكينهم إذا شاء ومنعهم إذا شاء.
الثالث - وما تشاؤن إلا أن يشاء الله ان يلطف لكم فى الاستقامة لما في الكلام من معنى النعمة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال شيبتني (هود) وأخواتها (الواقعة) و { إذا الشمس كورت } وهو جميع ما وعظ الله به عباده.
فان قيل: اليس ان أنساً لما سئل هل اختضب رسول الله صلى الله عليه وآله قال ما شأنه الشيب، فقال: أو شين هو يا أبا حمزة. فقال كلكم يكرهه؟
قيل عنه جوابان احدهما - أنه روي أن علياً عليه السلام لما غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وجد فى لحيته شعرات بيضاء، وما لا يظهر إلا بعد التفتيش لا يكون شيباً. الثاني - أنه أراد لو كان أمر يشيب منه إنسان لشبت من قراءة ما فى هذه السورة، وما فيها من الوعيد كما قال { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى } وإنما أراد عظم الأهوال على ما بيناه.