التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ
١٨
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ
١٩
كِتَابٌ مَّرْقُومٌ
٢٠
يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ
٢١
إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ
٢٢
عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ
٢٣
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ
٢٤
يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ
٢٥
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ
٢٦
وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ
٢٧
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ
٢٨
-المطففين

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ الكسائي وحده { خاتمه مسك } بألف قبل التاء. الباقون { ختامه مسك } فالختام مصدر، والخاتم صفة، ونظيره: رجل كريم الطابع والطباع قال الفرزدق:

فبتن خبابتي مصرعات وبت افض اغلاق الختام

وقرأ ابو جعفر ويعقوب { تعرف } بضم التاء وفتح الراء { نضرة } بالرفع على ما لم يسم فاعله. الباقون بفتح التاء وكسر الراء ونصب { نضرة }.
لما ذكر الله تعالى الفجار وما أعده لهم من أنواع العقاب وأليم العذاب ذكر الأبرار وهو جمع بر مثل جبل واجبال. والابرار الذين فعلوا الطاعات واجتنبوا المعاصي، واخبر { إن كتاب الأبرار لفي عليين } أي مراتب عالية محفوفة بالجلالة، فقد عظمها الله تعالى بما يدل على عظم شأنها في النعمة، وجمعت بالواو والنون تشبيها بمن يعقل في الفضل وعظم الشأن. وقال ابن عباس: العليون الجنة. وقال كعب وقتادة ومجاهد والضحاك: أرواح المؤمنين في السماء السابعة، وقال الضحاك - في رواية - عليون سدرة المنتهى، وهي التي اليها ينتهي كل شيء من أمر الله تعالى. وقيل: عليون علو على علو مضاعف، ولهذا جمع بالواو والنون تفخيماً لشأنه قال الشاعر:

فأصبحت المذاهب قد أذاعت به الاعصار بعد الوابلينا

يريد مطراً بعد مطر غير محدود العدد، وكذلك تفخيم شأن العد الذي ليس على الواحد، نحو ثلاثين إلى تسعين، وجرت العشرون عليه. وقيل: عليون أعلى الأمكنة. وقال الحسن: معنى فى عليين في السماء. وقال الجبائي: معناه فى جملة الملائكة العليين، فلذلك جمع بالواو والنون.
ثم قال تعالى على وجه التعظيم لشأن هذه المنازل وتفخيم أمرها { وما أدراك ما عليون } لان تفصيلها لا يمكن العلم بها إلا بالمشاهدة دون علم الجملة. ثم قال { كتاب مرقوم } أي الكتاب الذي ثبت فيه طاعتهم { مرقوم } أي مكتوب فيه جميع طاعاتهم بما تقرّ به أعينهم وتوجب سرورهم بضد الكتاب الذي للفجار، لان فيه ما يسؤهم ويسخن أعينهم { يشهده المقربون } أي يشهد هذا الكتاب الملائكة المقربون أي يشاهدون جوائزهم ويرونها. ومعنى المقربون - ها هنا - هم الذين قربوا إلى كرامة الله فى أجل المراتب.
ثم اخبر تعالى { إن الأبرار } وهم أهل البر الذين فعلوه لوجهه خالصاً من وجوه القبح، فالبر النفع الذي يستحق به الشكر والحمد يقال: برّ فلان بوالده فهو بار به وبرّ به، وجمعه أبرار { لفي نعيم } أي ويحصلون فى ملاذ وأنواع من الفنع { على الأرائك ينظرون } قال ابن عباس: الارائك الاسرة. وقال مجاهد: هي من اللؤلئ والياقوت، واحدها أريكة، وهو سرير فى حجلة ينظرون إلى ما أعطاهم الله من الملك والكرامة، والحجلة كالقبة على الاسرة، ثم قال { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } أي تتبين في وجوههم إشراق النعمة والسرور بها.
وقوله { يسقون من رحيق } فالرحيق الخمر الصافية الخالصة من كل غش. قال الخليل: هي أفضل الخمر وأجودها قال حسان:

يسقون من ورد البريص عليهم برداً يصفق بالرحيق السلسل

وقوله { مختوم } قيل إن هذا الخمر مختوم في الآنية بالمسك، وهو غير الذي يجري في الانهار. وقوله { ختامه مسك } قيل في معناه قولان:
أحدهما - ان مقطعه مسك بأن يوجد ريح المسك عند خاتمة شربه - ذكره ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك.
والثاني - أنه ختم اناؤه بالمسك بدل الطين الذي يختم بمثله الشراب في الدنيا - ذكره مجاهد وابن زيد - ومن قرأ { خاتمه } مسك أراد آخر شرابه مسك ويفتح التاء في { خاتمه } لان العرب تقول: خاتم وخاتم وخاتام وخيتام. ومن قرأ { ختامه } أراد شرابهم مختوم بالمسك. والمسك معروف، وهو أجل الطيب سمي مسكاً، لأنه يمسك النفس لطيب ريحه والمسك - بالفتح - الجلد لامساكه ما فيه { وفي ذلك } يعني في ذلك النعيم الذي وصفه الله { فليتنافس المتنافسون } فالتنافس تمني كل واحد من النفسين مثل الشيء النفيس الذي للنفس الاخرى أن يكون له تنافسوا في الشيء تنافساً ونافسه فيه منافسة، والجليل الذي ينفس بمثله نفيس، ونفس عليه بالأمر ينفس نفاسة إذا ضن به لجلالته.
وقوله { ومزاجه } أي مزاج ذلك الشراب الذى وصفه { من تسنيم } فالمزاج خلط المائع بالمائع كما يمزج الماء الحار بالبارد، والشراب بالماء. يقال أمزجه مزجاً وامتزج امتزاجا ومازجه ممازجة وتمازجا تمازجاً. والتسنيم عين الماء يجري من علو إلى سفل يتسنم عليهم من الغرف، واشتقاقه من السنام، وقال عكرمة: من تشريف، ويقال: سنام البعير لعلوه من بدنه.
وقوله { عيناً يشرب بها المقربون } قيل في نصب { عين } وجوه:
أولها - أن { تسنيم } معرفة و { عيناً } قطع منها، أو حال.
الثاني - أن يكون { تسنيم } مصدراً فيجري مجرى
{ أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً } }. الثالث - على تقدير أعني عيناً، مدحاً.
الرابع - يسقون عيناً، والباء زائدة، يقال: شربت عيناً وشربت بالعين وقد فسرناه في { هل أتى }.