التبيان الجامع لعلوم القرآن
قرأ حمزة والكسائي إلا قتيبة وخلف { المجيد } بالخفض جعلوه نعتاً للعرش. الباقون بالرفع على أنه نعت لله تعالى، وقرأ نافع "محفوظ" بالرفع. الباقون بالخفض نعتاً للوح. ومن رفع جعله نعتاً للقرآن.
اخبر الله تعالى عن صفة المؤمنين، فقال { إن الذين آمنوا } أي صدقوا بتوحيد الله واخلاص عبادته { وعملوا الصالحات } من الاعمال، واجتنبوا القبائح { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } أى لهم بساتين تجري من تحت أشجارها الانهار { ذلك الفوز الكبير } فالفوز النجاة بالنفع الخالص، وأصله النجاة، وقيل للمهلكة مفازة تفاؤلا كأنه قيل: منجاة، وفاز فلان بكذا أى خلص له نفعه، يفوز فوزاً. ولا يقال إلا في تعظيم النفع الذى صار له، وإنما ذكر الكبير - ها هنا - لان النعيم لهؤلاء العاملين كبير بالاضافة إلى نعيم من لا عمل له ممن يدخل الجنة، لما فيه من الاجلال والاكرام والمدح والاعظام. وقيل: الفوز الحظ الواقع من الخير.
ثم قال متوعداً ومتهدداً للكفار والعصاة { إن بطش ربك لشديد } يا محمد والبطش الاخذ بالعنف، بطش به يبطش بطشاً ويبطش ايضاً، فهو باطش، وإذا وصف بالشدة فقد تضاعف مكروهه وتزايد إيلامه. وقوله { إنه هو يبدئ ويعيد } قال ابن عباس: معناه إنه يبدأ العذاب ويعيده لاقتضاء ما قبله ذلك. وقال الحسن والضحاك وابن زيد: يبدأ الخلق ويعيده لان الاظهر فى وصفه تعالى بأنه المبدئ المعيد العموم في كل مخلوق { وهو الغفور } يعني الستار على خلقه معاصيهم { الودود } أى واد لهم ومحب لمنافع خلقه { ذوالعرش المجيد } ومعناه صاحب العرش، العظيم المجيد وقال ابن عباس: معناه الكريم. وقرأ اهل الكوفة إلا عاصماً المجيد بالجر جعلوه نعتاً للعرش. ومعناه ذو العرش الرفيع. الباقون بالرفع جعلوه نعتاً للغفور أى هو الغفور الودود المجيد ذو العرش، قال المبرد: يجوز أن يكون نعتاً لقوله { إن بطش ربك.... المجيد } فيكون قد فصل بينهما، وفيه بعد لانه قال { لشديد } وقال { أنه هو يبدئ ويعيد، وهو الغفور الودود ذو العرش } وفصل بهذا كله، يقال: مجدت الابل تمجد مجوداً إذا رعيتها فرعت وشبعت. ولا فعل لك، او أمجدتها أمجدها إمجاداً إذا اشبعتها من العلف وملأت بطونها ولا فعل لها في ذلك، وفي المثل في كل شجر نار واستمجد المرح والغفار. ومعناه كثر ناره لانه ليس في الشجر أكثر ناراً من الغفار.
وقوله تعالى { فعال لما يريد } معناه ما يشاؤه ويريده من أفعال نفسه يفعله لا يمنعه من ذلك مانع ولا يعترض عليه معترض، ولا يجوز أن يكون المراد إنه فعال لكل ما يريد لان ذلك يقتضي انه فعال لكل ما يريد أن يفعله العباد، وذلك انه يستحيل أن يفعل ما يريد أن يفعله العباد، لأن في ذلك ابطال الامر والنهي والطاعة والمعصية والثواب والعقاب، إذ لا يأمرهم أن يفعلوا ما قد فعله، ولا ينهاهم عنه، ولانه قد أراد من الكفار أن يؤمنوا، لانه قد أمرهم بالايمان وما فعل إيمانهم وقد قال الله تعالى { وما الله يريد ظلماً للعالمين } ولو فعل ظلمهم لكان قد أراد ظلمهم. وقوله { هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود } معناه تذكر يا محمد حديثهم تذكر معتبر، فانك تنتفع به، وهذا من الايجاز الحسن والتفخيم الذي لا يقوم مقامه التصريح لما يذهب الوهم فى أمرهم كل مذهب ويطلب الاعتبار كل مطلب.
وقوله { بل الذين كفروا في تكذيب } معناه بل هؤلاء الكفار الذين كفروا كذبوا بالبعث والنشور فاعرضوا عما يوجبه الاعتبار بفرعون وثمود، واقبلوا على ما يوجبه الكفر والتكذيب من التأكيد، ولم يعلموا أن { الله من ورائهم محيط } يقدر أن ينزل بهم ما انزل بفرعون. وقيل المعنى { هل أتاك حديث الجنود } وما كان منهم إلى انبيائهم فاصبر كما صبر الرسل قبلك { بل الذين كفروا في تكذيب } ايثاراً منهم لأهوائهم واتباعاً لسنن آبائهم.
وقوله { والله من ورائهم محيط } أي هم مقدور عليهم كما يكون فيما احاط الله بهم، وهذا من بلاغة القرآن.
وقوله { بل هو قرآن مجيد } أي كريم فالمجيد الكريم العظيم الكريم بما يعطي من الخير، فلما كان القرآن يعطي المعاني الجليلة والدلائل النفيسة كان كريماً مجيداً بما يعطي من ذلك، لان جميعه حكم. وقيل: الحكم على ثلاثة أوجه لا رابع لها: معنى يعمل عليه فيما يخشى ويتقى، وموعظة تلين القلب للعمل بالحق، وحجة تؤدي إلى تمييز الحق من الباطل فى علم دين أو دنيا، وعلم الدين أشرفهما وجميع ذلك موجود فى القرآن.
وقوله { في لوح محفوظ } عن التغيير والتبديل والنقصان والزيادة. وقال مجاهد: المحفوظ أم الكتاب، وقيل: انه اللوح المحفوظ الذي كتب الله جميع ما كان ويكون فيه - ذكره أنس بن مالك - أي كأنه بما ضمن الله من حفظه في لوح محفوظ ومن رفع { محفوظ } جعله صفة القرآن. ومن قرأه بالخفض جعله صفة اللوح.